الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا تم له مائة وعشرون سنة من يوم ولد حكمنا بموته ) قال رضي الله عنه : وهذه رواية [ ص: 148 ] الحسن عن أبي حنيفة : وفي ظاهر المذهب يقدر بموت الأقران ، وفي المروي عن أبي يوسف بمائة سنة ، وقدره بعضهم بتسعين ، والأقيس أن لا يقدر بشيء . والأرفق أن يقدر بتسعين ، وإذا حكم بموته اعتدت امرأته عدة الوفاة من ذلك الوقت ( ويقسم ماله بين ورثته الموجودين في ذلك الوقت ) كأنه مات في ذلك الوقت معاينة إذ الحكمي معتبر بالحقيقي [ ص: 149 ] ( ومن مات قبل ذلك لم يرث منه ) لأنه لم يحكم بموته فيها فصار كما إذا كانت حياته معلومة ( ولا يرث المفقود أحدا مات في حال فقده ) لأن بقاءه حيا في ذلك الوقت باستصحاب الحال وهو لا يصلح حجة في الاستحقاق

التالي السابق


( قوله وإذا تم له مائة وعشرون سنة من يوم ولد حكمنا بموته ) قال المصنف رحمه الله هذه رواية [ ص: 148 ] الحسن عن أبي حنيفة ، وفي ظاهر المذهب يقدر بموت الأقران ، وفي المروي عن أبي يوسف بمائة سنة ، وقدر بعضهم بتسعين ، والأقيس أن لا يقدر بشيء ( والأرفق أن يقدر بتسعين ) وجه رواية الحسن أن الأعمار في زماننا قلما تزيد على مائة وعشرين ، بل لا يسمع أكثر من ذلك فيقدر بها تقديرا بالأكثر ، وأما ما قيل إن هذا يرجع إلى قول أهل الطبائع فإنهم يقولون لا يجوز أن يعيش أحد أكثر من ذلك ، وقولهم باطل بالنصوص كنوح عليه السلام وغيره ، فما لا ينبغي أن يذكر توجيها لمذهب من مذاهب الفقهاء ، وكيف وهم أعرف بما دلت عليه النصوص والتواريخ بالأعمار السالفة للبشر بل لا يحل لأحد أن يحكم على أئمة المسلمين أنهم اعتمدوا في قول لهم على أمرهم يعترفون ببطلانه ويوجبون عدم اعتباره في شيء من الأشياء .

ووجه ظاهر الرواية أنه من النوادر أن يعيش الإنسان بعد موت أقرانه فلا ينبني الحكم عليه . ثم اختلفوا : فذهب بعض المشايخ إلى أن المعتبر موت أقرانه من جميع البلاد وآخرون أن المعتبر موت أقرانه في بلده ، فإن الأعمار قد تختلف طولا وقصرا بحسب الأقطار بحسب إجرائه سبحانه وتعالى العادة ، ولذا قالوا : إن الصقالبة أطول أعمارا من الروم ، فإنما يعتبر بأقرانه في بلده ، ولأن في ذلك حرجا كبيرا في تعرف موتهم من البلدان ، بخلافه من بلده فإنما فيه نوع حرج محتمل .

وأما المروي عن أبي يوسف فذكر عنه وجه يشبه أن يكون على سبيل المداعبة منه لهم . قيل إنه سئل عنه فقال : أنا أبينه لكم بطريق محسوس فإن المولود إذا كان بعد عشر يدور حول أبويه هكذا وعقد عشرا ، فإذا كان ابن عشرين فهو بين الصبا والشباب هكذا ، وعقد عشرين ، فإذا كان ابن ثلاثين يستوي هكذا وعقد ثلاثين ، فإذا كان ابن أربعين يحمل عليه [ ص: 149 ] الأثقال هكذا وعقد أربعين ، فإذا كان ابن خمسين ينحني من كثرة الأثقال والأشغال هكذا وعقد خمسين ، فإذا كان ابن ستين ينقبض للشيخوخية هكذا وعقد ستين ، فإذا كان ابن سبعين يتوكأ على عصا هكذا وعقد سبعين ، فإذا كان ابن ثمانين يستلقي هكذا وعقد ثمانين ، فإذا كان ابن تسعين تنضم أعضاؤه في بطنه هكذا وعقد تسعين ، فإذا كان ابن مائة يتحول من الدنيا إلى العقبى كما يتحول الحساب من اليمنى إلى اليسرى ، ولا شك أن بمثل هذا لا يثبت الحكم ، وإنما المعول عليه الحمل على طول العمر في المفقود احتياطا ، والغالب فيمن طال عمره أن لا يجاوز المائة .

فقوله في المبسوط : وكان محمد بن سلمة يفتي بقول أبي يوسف حتى تبين له خطؤه في نفسه فإنه عاش مائة وسبع سنين ليس موجبا لخطئه لأنه مبني على الغالب عنده ، وكونه هو خرج عن الغالب لا يكون مخطئا فيما أعطى من الحكم ، وكذا ذكر الإمام سراج الدين في فرائضه عن نصير بن يحيى أنها مائة سنة لأن الحياة بعدها نادر ، ولا عبرة بالنادر . ووري أنه عاش مائة سنة وتسع سنين أو أكثر ولم يرجع عن قوله .

واختار الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد أنها تسعون سنة لأن الغالب في أعمار أهل زماننا هذا ، وهذا لا يصح إلا أن يقال : إن الغالب في الأعمار الطوال في أهل زماننا أن لا تزيد على ذلك ، نعم المتأخرون الذين اختاروا ستين بنوه على الغالب من الأعمار .

والحاصل أن الاختلاف ما جاء إلا من اختلاف الرأي في أن الغالب هذا في الطول أو مطلقا ، فلذا قال شمس الأئمة : الأليق بطريق الفقه أن لا يقدر بشيء لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون وهذا هو قول المصنف الأقيس إلخ ، ولكن نقول : إذا لم يبق أحد من أقرانه يحكم بموته اعتبارا لحاله بحال نظائره ، وهذا رجوع إلى ظاهر الرواية . قال المصنف ( والأرفق ) أي بالناس ( أن يقدر بتسعين ) وأرفق منه التقدير بستين . وعندي الأحسن سبعون لقوله صلى الله عليه وسلم { أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين } فكانت المنتهى غالبا .

وقال بعضهم : يفوض إلى رأي القاضي ، فأي وقت رأى المصلحة حكم بموته واعتدت امرأته عدة الوفاة من وقت الحكم للوفاة كأنه مات فيه معاينة ، إذ الحكمي معتبر بالحقيقي ( قوله ومن مات منهم ) أي ممن يرث المفقود ( قبل ذلك ) أي قبل أن يحكم بموت المفقود ( لم يرث من المفقود ) بناء على الحكم بموته قبل موت المفقود فتجري مناسخة فترث ورثته من المفقود ( لأنه لم يحكم بموت المفقود بعد ) وحين مات هذا كان المفقود محكوما بحياته كما إذا كانت حياته معلومة ( ولا يرث المفقود أحدا مات في حال فقده لأن بقاءه حيا في ذلك الوقت ) يعني وقت موت ذلك الأحد ( باستصحاب الحال وهو لا يصلح حجة في الاستحقاق ) بل في دفع الاستحقاق عليه ولذا جعلناه حيا في حق نفسه فلا يورث ماله في حال فقده ميتا في حق غيره فلا يرث هو غيره




الخدمات العلمية