الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ وجوه الافتراق بين الخطابين ] ويفترقان من وجوه : أحدها : أن التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف ، والوضعي يتعلق بفعل غير المكلف ، فلو أتلفت الدابة أو الصبي شيئا ضمن صاحب الدابة والولي في مال الصبي . الثاني : أن التكليفي لا يتعلق إلا بالكسب بخلاف الوضعي ، ولهذا لو قتل خطأ وجبت الدية على العاقلة ، وإن لم يكن القتل مكتسبا لهم . فوجوب الدية عليهم ليس من باب التكليف لاستحالة التكليف بفعل الغير بل معناه أن فعل الغير سبب لثبوت هذا الحق في ذمتهم . الثالث : أن الوضعي خاص بما رتب الحكم فيه على وصف ، أو حكمة ، إن جوزنا التعليل بها ، فلا يجري في الأحكام المرسلة الغير المضافة إلى الأوصاف ، ولا في الأحكام التعبدية التي لا يعقل معناها .

                                                      ولهذا لو أحرم ، ثم جن ، ثم قتل صيدا لا يجب الجزاء في ماله على الأصح . ووجهه ابن الصباغ والرافعي بأن الصيد على الإباحة وإنما يمنع من قتله تعبدا ، فلا يجب إلا على مكلف . قلت : وبه يظهر فساد قول من ظن أنه من باب خطاب الوضع ، وقال : الأرجح فيه الضمان [ ص: 172 ] وقال النووي في " شرح المهذب " : إنه الأقيس ، وليس كما قال . الرابع : أن خطاب التكليف هو الأصل ، وخطاب الوضع على خلافه . فالأصل أن يقول الشارع : أوجبت عليكم ، أو حرمت ، وأما جعله الزنى والسرقة علما على الرجم والقطع ، فبخلاف الأصل . نعم خطاب الوضع يستلزم خطاب اللفظ ; لأنه إنما يعلم به كقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } الآية . ونحوه من الخطابات اللفظية المفيدة للأحكام الوضعية بخلاف خطاب اللفظ ، فإنه لا يستلزم خطاب الوضع ، كما لو قال : لا يتوضأ إلا من حدث ، فإن هذا خطاب لفظي يعقل تجرده عن سبب وضع أو غيره . ويعلم مما ذكرناه أنه يقدم الحكم التكليفي على الوضعي عند التعارض ; لأنه الأصل ، ومنهم من يقدم الوضعي ; لأنه لا يتوقف على فهم وتمكن . حكاه الآمدي في باب التراجيح .

                                                      الخامس : أن الوضعي لا يشترط فيه قدرة المكلف عليه ، ولا علمه ، فيورث بالسبب ، ويطلق بالضرر ، وإن كان الوارث والمطلق عليه غير عالمين ولو أتلف النائم شيئا أو رمى إلى صيد في ملكه فأصاب إنسانا ضمنه ، وإن لم يعلما . وتحل المرأة بعقد وليها عليها ، وتحرم بطلاق زوجها ، وإن كانت لا تعلم . ويستثنى من عدم اشتراط العلم والقدرة أمران : أحدهما : أسباب العقوبات كالقصاص لا يجب على المخطئ في القتل ، [ ص: 173 ] لعدم العلم ، وحد الزنى لا يجب في الشبهة ، لعدم العلم ، ولا من أكره على الزنى ، لعدم القدرة على الامتناع . الثاني : الأسباب الناقلة للملك كالبيع والهبة والوصية ونحوها يشترط فيها العلم والقدرة . فلو تلفظ بلفظ ناقل للملك ، وهو لا يعلم بمقتضاه لكونه أعجميا لم يلزمه مقتضاه ، لقوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض } .

                                                      [ التنبيه ] الثاني : استشكل جعل الحكم الشرعي جنسا للأحكام الخمسة ، وما ألحق به من خطاب الوضع ; لأن الجنس لا بد وأن يكون صادقا على نوعين خارجيين ، فيلزم أن يكون الحكم الشرعي الذي هو الجنس صادقا على خمسة أنواع أو ستة ، والأنواع مختلفة الحقائق جزما ، فيلزم أن يكون خطاب التحريم والندب والإباحة والكراهة مختلفات الحقائق لنوعيتها ، وهي أنواع : الحكم الشرعي الذي هو الكلام النفسي ، ويلزم أنه لا يكون الكلام النفسي الذي هو كلام الله حقيقة واحدة بل حقائق مختلفة ، وذلك باطل على أصل الأشاعرة ، وإن قيل : لا أجعل الحكم الشرعي جنسا للخمسة أو الستة بل أجعله عرضا عاما ففاسد ; لأن العرض العام لا بد وأن يكون صادقا على نوعين ، وإلا لكان خاصة فيعود الإشكال .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية