الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ المسألة ] الأولى [ شكر المنعم ] شكر المنعم : وهو الثناء عليه بذكر آلائه وإحسانه حسن قطعا بضرورة العقل . وأما وجوبه فإنما يكون بالشرع ولا يجب عقلا عندنا ، وعندهم أنه يجب عقلا لكنه وجوب استدلال لا ضروري ، ووافقهم على ذلك جماعة من أصحابنا الأقدمين منهم أبو العباس بن القاص ، وأبو بكر القفال الشاشي ، وأبو عبد الله الزبيري وأبو الحسين بن القطان ، وأبو بكر الصيرفي . فقال الزبيري : العبادات من قبل السمع لا ترد إلا على ثلاثة أوجه : ضرب يرد بإيجاب ما تقدم في العقل وجوبه ، كالإيمان بالله وشكر المنعم ، والثاني : يرد بحظر ما تقدم في العقل وجوبه كالكفر بالله . والثالث : يرد لما في العقل جواز مجيئه ، كالصلوات ، والزكوات والحج ، والصوم [ ص: 196 ] وقال ابن القاص في كتاب " أدب الجدل " : الأشياء في العقل على ثلاثة أضرب : فضرب أوجبه العقل ، وضرب نفاه ، وضرب أجازه وأجاز خلافه ، فما أوجبه العقل فهو واجب كشكر المنعم ومعرفة الصانع . قال : فأما الضربان الأولان فحجة الله فيهما قائمة على كل ذي لب قبل مجيء الشرع وبعده ، ولا يجيء سمع إلا مطابقا . ا هـ . وقال أبو الحسن بن القطان : لا خلاف أن ما كان للعقل فيه حكم أنه ما كان عليه مثل شكر المنعم ونحوه . ا هـ .

                                                      وقال القفال في " محاسن الشريعة " في كتاب الصلاة : والعقول تدل على وجوب شكر المنعم . ونقله الأستاذ أبو إسحاق في " شرح كتاب الترتيب " عن القفال ، وابن أبي هريرة منا " قال " وكان ذلك مذهب الصيرفي ورجع عنه . قال : ولم يخالفوا أصولنا في غير هذا الموضع ، ووافقونا في باقي المسائل ، وقال في موضع آخر : القول بوجوبه باطل في قول أكثر أصحابنا من المتكلمين والفقهاء . وجماعة من أصحابنا الفقهاء لما نظروا إلى أسئلة المعتزلة وإيجاب الشكر بمجرد العقل اعتقدوا أن شكر المنعم ومعرفة حدوث العالم ، وأن له محدثا ، وأن له منعما أنعم عليه كلها واجب بالعقل قبل الشرع ، وهم أبو بكر الصيرفي وأبو علي بن أبي هريرة وأبو بكر القفال . قال : وأبو علي السقطي يعني الطبري ويعرف بابن القطان كان صاحب ابن أبي هريرة وكان يدق عليه في هذا الفصل [ ص: 197 ] قال : وحكى أبو سهل الصعلوكي أن أبا علي بن أبي هريرة وقع إلى أبي الحسن يعني الأشعري - وأبو الحسن كلمه في هذا الفصل ، ولم ينجع منه . فقال أبو الحسن لأبي علي أنت تشنؤني : أي تبغضني . قال : فوقعت بينه وبين الشيخ أبي الحسن . قال أبو سهل : وكنا نتعصب للشيخ أبي الحسن فمضينا وقعدنا على رأس القنطرة التي كانت على طريق ابن أبي هريرة ، وهي قنطرة ببغداد يقال لها : الصراة وكنا ننتظره لننتفع به ، وأما أبو بكر الصيرفي ، فقد وقع إلى الشيخ أبي الحسن ولح معه في هذه المسألة . فقال له أبو الحسن : أبجد تقول : إن الكائنات كلها بإرادة الله تعالى خيرها وشرها ؟ قال : نعم . فقال أبو الحسن إذا كانت العلة في إيجاب شكر المنعم أنه لا يأمن أن يكون المنعم الذي خلقه قد أراد منه الشكر ، فقد يجوز أن يريد منه أن لا يشكره ; لأنه مستغن عن شكره .

                                                      فإما أن يعتقد أنه لا يريد ما ليس بحسن كما قالت المعتزلة ، وإما أن لا تأمن أنه قد أراد منك ترك شكر المنعم ، وإذا شكرته عاقبك فلا يجب عليك شكر المنعم لهذا الجواز . فترك أبو بكر الصيرفي هذا المذهب ورجع عنه ، وأما أبو علي وأبو بكر القفال فلم يثبت عنهم الرجوع عن هذه المقالة . قلت : قال الطرطوشي في " العمد " : هذا مذهب أهل السنة قاطبة [ ص: 198 ] إلا ثلاثة رجال تلعثموا في هذا الأصل في أول أمرهم ثم رجعوا عنه إلى الحق ، وهم : أبو بكر الصيرفي ، وأبو العباس القلانسي ، وأبو بكر القفال . ثم قال الأستاذ : كانت المعتزلة والأوائل منهم على أن وجوب شكر المنعم معلوم بالنظر ، كما قال بعض الفقهاء من أصحابنا ، فصاروا كلهم في آخرهم إلى أنه معلوم ضرورة ، وإلزامات وردت عليهم . انتهى كلامه ، وقد تضمن فوائد جليلة .

                                                      وقال في موضع آخر : قصد الأوائل من أصحابنا بقولهم : إنا لا نعرف القبح والعدل ، والظلم إلا بالشرع فقط مخالفة المعتزلة في قولهم : ما قبحه العقول لا يرد الشرع بتحسينه ، لا أنا لا نعرف معاني هذه الألفاظ قبل الشرع من اللغة ، بل نعرفها قبل الشرع ونعلم تواطؤهم على التقبيح والتحسين في أشياء نعرفها ، واختلافهم في أشياء أخرى ، وأن عقلاءهم حكموا كذلك . قال : ومن قال : إنا لا نعرف مقاصدهم بهذه الألفاظ قبل الشريعة لم يتمكن من الكلام فيها والمناظرة مع الخصوم . فإنه متى جرى في كلامه أن الشرع يقبحه أو يحسنه منعه منه . فقال : أي شيء تعني بالتحسين والتقبيح وأنت لا تعرفه حتى يرد الشرع ؟ فيتعذر الكلام عليه . قال : وأول ما ورد أبو عمرو البسطامي بنيسابور حضر بعض مجالس الكلام لبعض العلوية ، فسئل عن هذه المسألة . فقال : لا أعرف الحسن والقبح قبل الشريعة . فأورد عليه هذا السؤال فالتبك فيه [ ص: 199 ] وتخبط ولم يمكنه الخروج منه . ثم قال : يكون الفرق بيننا في قولنا : إنما نعرف معاني هذه الألفاظ وبين قول المعتزلة إنا نقول ما قضى العقل بقبحه جاز أن ترد الشريعة باستحسانه ا هـ .

                                                      وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب " التحصيل " : وكان أبو العباس القلانسي وأبو بكر الصيرفي ، من أصحابنا يقولان بوجوب شكر المنعم ووجوب الاستدلال على معرفته ومعرفة صفاته من جهة العقل قبل ورود الشرع ، ثم إن الصيرفي ناظر الأشعري في ذلك ، واستدل على وجوب شكر المنعم بالعقل بوجوب الاحتراز مما يخاف منه الضرر . قال : فإذا خطر ببال العاقل أنه لا يأمن أن يكون له صانع قد أنعم عليه وأراد منه الشكر على نعمه والاستدلال على معرفته لزمه الشكر والمعرفة . فقال له الأشعري : هذا الاستدلال ينافي أصلك ; لأنك استدللت على وجوب شكر المنعم بإمكان أن يكون المنعم قد أراد ذلك ، وإرادة الله لا تدل على وجوبه ; لأنه سبحانه قد أراد حدوث كل ما علم حدوثه من خير وشر وطاعة ومعصية ، ولا يجوز أن يقال بوجوب المعاصي ، وإن أراد الله عز وجل حدوثها . فعلم الصيرفي منافاة استدلاله على مذهبه ورجع إلى القول بالوقف قبل الشرع . ا هـ . زاد الطرطوشي أنه صنف كتابا سماه " الاستدراك " رجع فيه عن قوله الأول . وقيل : إنه ألحق بحاشية الكتاب : نحن وإن كنا نقول بشكر المنعم فإنما نقوله عند ورود الشرع [ ص: 200 ] قال : وكذا القلانسي كان يقول به ، ثم لما تحقق له ما فيه من التهافت رجع عنه .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية