الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ المذاهب في الشرط الشرعي ] وفي المسألة مذاهب : أحدها : أنه واجب مطلقا لكن شرطوا أن يكون مقدورا للمكلف ، [ ص: 298 ] كالطهارة وغيرها من الشروط ، فالأمر بالصلاة أمر بها ، أما ما لا يمكن من الآلات والذوات فتخرج على جواز تكليف ما لا يطاق ، وحينئذ فإنما يعتبر هذا الشرط من منع تكليف ما لا يطاق . هذا هو الأصح عند الأصوليين ، وبه جزم سليم في " التقريب " قالوا : وسواء كان شرطا أو سببا ، وكان الشرط شرعيا كالوضوء للصلاة ، أو عقليا كترك أضداد الواجب ، أو عاديا كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه . وإذا قلنا بهذا فاختلفوا في موضعين : أحدهما : أن الوجوب هل يتلقى من نفس الصيغة أو من دلالتها ؟ أشار ابن السمعاني إلى حكاية الأول ، وهو ضعيف ، والجمهور على الثاني ، ونصره ابن برهان .

                                                      قال : لم يدل عليه من حيث اللفظ ، وإنما دل عليه من حيث المعنى ; لأن الدلالة اللفظية ما كان مسموعا في اللفظ ، ولا شك أن للشرط لفظا يخصه ، ولم يسمع ذلك ، فوجب أن دلالته من حيث المعنى . ويخرج من اختلاف عباراتهم مذهبان آخران :

                                                      أحدهما : أنه يدل بالالتزام .

                                                      والثاني : بالتضمن ، وهو ما صرح به إمام الحرمين في " البرهان " و " التلخيص " . وقد يستشكل بأن الطهارة ليست جزء الصلاة ، فكيف يدل بالتضمن ؟ [ ص: 299 ] وإيضاحه : أن إيجاب الطهارة دل عليه قوله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ، فالصلاة وجبت مقيدة بالغسل الذي هو الوضوء ، فإذا استقر ذلك ، ثم ورد قوله { وأقيموا الصلاة } وجب حمله على الصلاة المعهودة ، وهي المقيدة بالطهارة ، والدال على الصلاة وجب حمله على الصلاة المعهودة ، وهي المقيدة بالطهارة ، والدال على الصلاة المقيدة دال على قيدها بالتضمن ، كقوله : أعتق الرقبة المؤمنة ، ثم يقول : أعتق الرقبة ، فمطلق الرقبة دال على الإيمان بالتضمن .

                                                      الثاني : إذا قلنا : إنه وجب من دلالته ، فهل وجب لنفسه أو لغيره ؟ على وجهين . حكاهما الدارمي في " الاستذكار " ، وظاهر كلام الأصحاب أنه لغيره ، ورجح إمام الحرمين في " التلخيص " فيما يتوقف عليه عادة كغسل شيء من الرأس لغسل الوجه ، واستصحاب الإمساك عن المفطر في جزء من أول الليل أنه وجب لنفسه ، وحكى قولا أنه ندب لا واجب ، وزيفه بأنه إذا لم يقدر على الواجب إلا به فلو تركه لتعطل الواجب ، فما معنى وصفه بالتطوع ؟ وزعم الإبياري أنه لا خلاف في وجوب الشرط الشرعي ، وليس كذلك ، فقد حكى الإمام في " التلخيص " الخلاف فيه عن بعض المعتزلة ، وزعم تلميذه ابن الحاجب أنه لا خلاف في وجوب السبب ، وليس كذلك لكن بهذا صرح صاحب " المصادر " ، فقال : الذي لا يتم الواجب إلا به إن كان سببا كالرمي في الإصابة فلا خلاف أن الأمر بالمسبب أمر بالسبب في المعنى ، وعلى هذا فإيجاب المسبب إيجاب لسببه ، وإباحته إباحة لسببه ، وحظره حظر لسببه ; لأنه لا يتم بدونه بخلاف العكس ; لوجوده بدونه . [ ص: 300 ] وإن كان شرطا شرعيا كالوضوء ، أو غير شرعي كالمشي إلى عرفات للوقوف ، فإن ورد الأمر مطلقا فهو في المعنى أمر بالشرط هذا بعد أن تقرر في الشرع ذلك ، وإن ورد مشروطا باتفاق حصول المقدمة فليس أمرا بالمقدمة ، كالأمر بالحج بشرط الاستطاعة . ا هـ .

                                                      ويمكن أن يقال : لا منافاة بين ما نقله صاحب " المصادر " وابن الحاجب ، وما نقله الجمهور ، لأن محل الخلاف في أن إيجاب المسبب هل هو دال على إيجاب السبب ؟ ومحل الإجماع على أنه إذا وجب المسبب فقد وجب السبب لا من جهة اللفظ . ولهذا قال في " المنتهى " : فإنا لا ننكر وجوب الأسباب بدليل خارجي كما أن أسباب الحرام حرام ، والمذهب الثاني : أنه ليس بواجب مطلقا ، ونسب للمعتزلة ، وحكاه ابن السمعاني في " القواطع " عن أصحابنا ; لأن هذه الشرائط لها صيغ بخصوصها ، واختلاف الصيغ يدل على اختلاف المصوغ له . واعلم أنا لا ننكر كون الصلاة مقتضية للطهارة بالدلالة ، وإنما ننكر كونه من حيث الصيغة مقتضية له ، وقد قال أصحابنا : إن الصلاة بصيغتها تدل على الدعاء فقط ، وما زاد على الدعاء ثبت بالدليل الشرعي لا من جهة الصيغة . بقي أن يقال : إن ذلك الشرط هل نصفه الآن بالندب ، لأنه طريق إلى تحصيل أمر واجب أو بالإباحة ؟ لم أر من تعرض له ويشبه أن يكون على الخلاف في استحباب النذر أو إباحته . [ ص: 301 ] والمذهب الثالث : التفصيل بين أن تكون الوسيلة سبب المأمور به ، فيجب أو شرطه فلا يجب ، وهو اختيار صاحب " المصادر " كما سبق ، والفرق أن وجود السبب يستلزم وجود المسبب بخلاف الشرط . والمذهب الرابع : إن كان سببا أو شرطا فهو واجب ، وإن كان غيرهما فليس بواجب . والمذهب الخامس : يجب الشرط الشرعي إذا كان الفعل يتأتى بدونه عقلا أو عادة لكن الشرع جعله شرطا للفعل كالوضوء وأما ما لم يتأت اسم الفعل إلا به عقلا أو عادة كالأمر بغسل الوجه فهو واجب في نفسه ، ولا نسميه شرطا ، إذ لا يتم عادة غسل الوجه إلا بغسل شيء من الرأس ، وبهذا أجاب إمام الحرمين وابن القشيري ، وابن برهان وتبعهم ابن الحاجب .

                                                      والفرق : أن الشرط الشرعي يمكن دخوله في الأمر بالمشروط هاهنا كما سبق تقريره بخلاف غير الشرعي ، نحو غسل جزء من الرأس فإنه لم يقع من الشرع نص على إيجابه بل ورد الأمر بغسل الوجه مطلقا ، والعادة تقضي بأن غسل الوجه لا يحصل إلا بغسل جزء من الرقبة ، فبهذا افترق الشرط الشرعي وغيره . هذا تحرير النقل عن إمام الحرمين . المذهب السادس : الوقف ، أشار إليه صاحب " المعتمد " إلزاما للواقفين في صيغ العموم ; لأنه لا يأمن أن يكون أمرا بشرط تحصيل المقدمة ، ولا بأمر خلافه ، فيجب الوقف ، وقال بعض المتأخرين : إن كان ما لا يتم الواجب إلا به ملازما في الذهن بحيث إن المكلف حال استماع الأمر ينتقل ذهنه إلى ذلك الشيء ، ويعلم أن الإتيان بالمأمور به ممتنع بدون الإتيان بتلك المقدمة فهو واجب ، وإن لم يكن ملازما ، بل يتوقف عليه عقلا أو شرعا فلا يكون الأمر واجبا من تلك [ ص: 302 ] الصيغة ، بل من المركب من الأمر والعقل ، أو من الأمر والدليل الشرعي ، وقال أبو نصر القشيري مجليا لعبارة الإمام : ليس الخلاف في العادي كالأمر بغسل شيء من الرأس لأجل استيعاب الوجه لأن ذلك القدر لا يلزم قطعا أي من جهة الصيغة ، وليس من قبيل الشرائط بل من قبيل ما يؤول إلى المعتاد .

                                                      قال فالأقسام ثلاثة : أحدها : متلقى من صيغة الأمر وهو المقصود ، والثاني : ما ثبت شرطا في العبادة ، وفي المأمور به ، وإن لم يكن جزءا منه كالوضوء ، فالأمر بالصلاة الصحيحة يتضمن أمرا بالطهارة ، وكذا وضع الشرائط ، والثالث : ما يتعلق بالإمكان وليس بمقصود الشرع لا مشروطا ولا شرطا ، ولكنه في علم الجبلة يضاهي الشروط ، وإن لم يكن شرطا شرعيا ، وهذا يلتفت على الانتهاء عن أضداد المأمور به في محاولة امتثال الأمر . ا هـ . وحاصله : أن العادي لا يسمى شرطا ولا يجب ، وإنما يجب الشرط الشرعي ، وهذا هو تقرير قول إمام الحرمين . وزاده ابن برهان إيضاحا فقال : تحصلنا على ثلاثة أقسام لا يتأتى فعل المأمور به إلا بها . أحدها : ما كان من أبعاضه وأجزائه كأجزاء الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود ، فالأمر يتناولها ، ودل عليها لفظا . [ ص: 303 ] الثاني : ما كان من شرائطه وأسبابه كالطهارة ، والقبلة ، وستر العورة ، فالأمر تناولها ودل عليها معنى لا لفظا .

                                                      والثالث : ما كان من ضروراته كأخذ جزء من الليل في صوم اليوم ، وأخذ جزء من الرأس في غسل الوجه ، فالأمر ما تناوله ولا دل عليه من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ، وإنما ثبت ; لأنه من ضرورات المأمور جبلة وخلقة . والفرق بين هذا والذي قبله : أن ما كان من ضرورات المأمور يتصور الإتيان بالمأمور بدونه ، وما كان من شرائطه وأسبابه لا يتصور إتيان المأمور به إلا إذا أتي به . مثاله : أنا لو قدرنا أن الله تعالى خلق في الواحد منا إدراك أول جزء من النهار حتى تطبق النية عليه صح صومه ، ولم يجب عليه إمساك جزء من الليل ، ولذلك لو قدر على غسل ما هو الفرض لم يجب عليه غسل جزء من الرأس ، وهكذا في ستر العورة بخلاف الشرط فإنه لا يتصور صحة الأمر إلا به ، فكان الأمر دالا عليه معنى ، ولم يكن دالا على الأول لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية