الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ المسألة ] الثانية [ حكم أفعال العقلاء قبل ورود الشرع ] . إن أفعال العقلاء لا حكم لها قبل ورود الشرع عندنا بناء على أن الأحكام هي الشرائع وعندهم الأحكام هي صفات الأفعال ، فقالوا : الأفعال الاختيارية إما حسن بالعقل كإسداء الخيرات ، أو قبيح بالعقل كالجور والظلم . وهذان لا خلاف فيهما عندهم كما قاله ابن برهان وغيره ، وإنما الخلاف فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح كفضول الحاجات والتنعمات ، والأول واجب أو مندوب أو مباح . والثاني حرام أو مكروه . والثالث فيه خلاف هل هو واجب أو مباح أو على الوقف ؟ ثلاثة مذاهب . أما الأفعال الاضطرارية كالتنفس ونحوه فحسنة قولا واحدا . وهكذا حرر الآمدي وغيره محل الوفاق من الخلاف . [ ص: 201 ] وأما الإمام الرازي فإنه عمم الخلاف في جميع الأفعال وهو مناف لقواعد الاعتزال من جهة أن القول بالحظر مطلقا يقتضي تحريم إنقاذ الغرقى ، وإطعام الجوعان ، وكسوة العريان . والقول بالإباحة مطلقا يقتضي إباحة العقل والفساد في الأرض . والخلاف ظاهر فيما لم يطلع العقل على مفسدته ولا مصلحته . وحينئذ فلا تنافي الأصول قواعد القوم . قال القرافي : لكن طريقة الإمام يساعدها النقل ، فإن أبا الحسين البصري في كتاب المعتمد " حكى عن شيعته المعتزلة الخلاف مطلقا من غير تقييد كما حكى الإمام ، ووافقه القرافي أخيرا لهذا . قلت : لكن ابن برهان وابن القشيري وغيرهما من الأئمة إنما حكوا الخلاف عنهم فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح . وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتابه في أصول الفقه : قال جمهور المعتزلة : الشكر وما في معناه واجب . واختلفوا فيما وراءه هل هو حرام أو مباح ؟ . وقال أبو الحسين بن القطان ممن يوافق المعتزلة : لا خلاف أن ما كان للعقل فيه حكم أنه على ما كان عليه قبل ورود الشرع مثل شكر المنعم وكفره . واختلفوا فيما سواه ثم حكى الخلاف . وقال سليم الرازي إن التنفس في الهواء والانتقال من مكان إلى مكان آخر ليس من محل الخلاف لكن صاحب المصادر " من الشيعة حكى الخلاف عن المعتزلة هل هو في الحالتين أو في الاختيارية ؟ قولان . وقال سليم أيضا في ذيل المسألة : ثم الخلاف إنما هو فيما يجوز أن يرد الشرع بإباحته وحظره كالمآكل والملابس والمناكح أما ما لا يجوز عنه الحظر [ ص: 202 ] كمعرفة الله وما لا يجوز عليه الإباحة كالكفر بالله ونسبة الظلم إليه فلا خلاف فيه .

                                                      وكذلك جعل القاضي عبد الوهاب الخلاف في مجوزات العقول . قال : وهي كل ما جاز أن يرد السمع بتحليله أو تحريمه . وقال صاحب المصادر " من الشيعة : لا خلاف بين المعتزلة أن الأفعال المضرة على الحظر ، وإنما الخلاف في الأفعال التي يصح الانتفاع بها ولا ضرر فبها مما لا يعلم وجوبه ولا ندبه ، على ثلاثة أقوال فذكرها .

                                                      وقال بعض المحققين من المتأخرين : فروع التحسين والتقبيح حكم الأشياء قبل ورود الشرع هم يثبتونه مطلقا في كل مسألة من الأصول والفروع غير أن فيها ما يدرك بضرورة العقل . ومنها ما يدرك بنظره . ومنها ما لا يدرك بهما . فتجيء الرسل منبهة عليه في الأوليين مقررة ، وفي الثالث كاشفة ، وعندنا لا يعرف وجوب ولا تحريم في شيء من ذلك بالعقل ، ولا يثبت إلا بالشرع بعد البعثة إنشاء جديدا ، وقيل : بطريق التبيين ، وكنا قبله متوقفين في الجميع . قال : وهذا الذي قلناه هو معتقد أهل السنة وإجماع الأئمة الأربعة وأصحابهم ، وقال صاحب روضة الناظر وجنة المناظر " من الحنابلة : الأفعال قبل ورود الشرع هل هي على الإباحة أو الحظر ؟ قال القاضي : فيه قولان . يومئ إليهما في كلام أحمد . وقال ابن عقيل : هما روايتان . قال : وهذا النقل يشكل مع استقرار مذهب أحمد أن لا مجال للعقل في التحسين والتقبيح .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية