الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 240 ] من أسماء الواجب المحتوم والمكتوب والفرض ، ولا فرق عندنا بين الفرض والواجب شرعا ، وإن كانا مختلفين في اللغة . إذ الفرض في اللغة التقدير . ومنه فرض القاضي النفقة ، والوجوب لغة قد سبق ، ومن الدليل على ترادفهما حديث : { قال : هل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع } فلم يجعل بين الفرض والتطوع واسطة ، بل الخارج عن الفرض داخل في التطوع ، ووراء ذلك مذهبان : أحدهما عن الحنفية : أن الفرض ، ما ثبت بدليل قطعي كالكتاب والسنة المتواترة تشوفا منهم إلى رعاية المعنى اللغوي ; لأن ذلك هو الذي يعلم من حاله أن الله قدره علينا . والواجب : ما ثبت بدليل ظني ; لأنه ساقط علينا ، ولا نسميه بالفرض ; لأنا لا نعلم أن الله قدره علينا كالوتر ، وزكاة الفطر ، والأضحية ، وخصه أبو زيد الدبوسي بالثابت بخبر الواحد . قال : وهو كالفرض في لزوم العمل والنافلة في حق الاعتقاد حتى لا يكفر جاحده .

                                                      [ ص: 241 ] قال : ومن أصلنا أن الزيادة على النص نسخ ، والمكتوبات معلومة بكتاب الله ، فالزيادة عليها تكون بمنزلة نسخها علم تحريماتها بخبر الواحد فلذلك لم تجعل رتبتها في الوجوب رتبة الفريضة حتى لا تصير زيادة عليها . قلنا : الفرض المقدر أعم من كونه علما أو ظنا ، والواجب هو الساقط أعم من كونه علما أو ظنا ، فتخصيص كل من اللفظين بأحد القسمين تحكم . قال أصحابنا منهم الشيخ أبو حامد : ولو عكسوا القول لكان أولى ; لأن لفظ الوجوب لا يحتمل غيره بخلاف الفرض ، فإنه يحتمل معنى التقدير ، والتقدير قد يكون في المندوب . فإن أرادوا إلزام غيرهم بهذا الاصطلاح لموافقة الأوضاع اللغوية فممنوع لما بينا . وإن قصدوا اصطلاحهم عليه فلا مشاحة في الاصطلاح ، ولا ينكر انقسام الواجب إلى مقطوع به ومظنون فيه . وقال ابن دقيق العيد في شرح العنوان " : إن كان ما قاله راجعا إلى [ ص: 242 ] مجرد الاصطلاح فالأمر فيه قريب إلا أنه يجب في مثله التحرز عن استعمال اللفظ بالنسبة إلى المعنى عن اختلاط الاصطلاحين ، فإنه يوقع غلطا معنويا .

                                                      وأيضا فالمصطلح على شيء يحتاج إلى أمرين إذا أراد أن يكون اصطلاحه حسنا . أحدهما : أن لا يخالف الوضع العام لغة أو عرفا . الثاني : أنه إذا فرق بين متقارنين يبدي مناسبة للفظ كل واحد منهما بالنسبة إلى معناه ، وإلا كان تخصيصه لأحد المعنيين بعينه بذلك اللفظ بعينه ليس أولى من العكس ، وهذا الموضع الذي فعلته الحنفية من هذا القبيل ; لأنهم خصوا الفرض بالمعلوم قطعا من حيث إن الواجب هو الساقط ، وهذا ليس فيه مناسبة ظاهرة بالنسبة إلى كل لفظة مع معناها الذي ذكروه ، ولو عكسوا الأمر لما امتنع . فالاصطلاح عليه ليس بذلك الحسن . ا هـ . وقد نقض عليهم فإنهم جعلوا القعدة في الصلاة فرضا ، ومسح ربع الرأس فرضا . ولم يثبت بقاطع .

                                                      قال القاضي : وجعلوا الوضوء من الفصد فرضا مع أنه لم يثبت بقطعي ، وكذلك الصلاة على من بلغ في الوقت بعدما أدى الصلاة ، والعشر في الأقوات ، وفيما دون خمسة أوسق . قال إلكيا : وهذه التفرقة عندهم بالنسبة إلينا أما عند الله فهو سواء . ثم قيل : الخلاف لفظي راجع إلى التسمية . وقيل : بل تظهر فائدته في التكفير على تقدير الجحود فإن من جحد [ ص: 243 ] قطعيا كفر ، أو ظنيا فلا ، وليس هذا من ضروريات الفرق . قال ابن برهان : بل هو معنوي ينبني على أن الأحكام عندنا بأسرها قطعية ، وعندهم تنقسم إلى ما ثبت بقطعي وإلى ما ثبت بظني وقد سبق ما فيه . وحكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن الحنفية أن الفرض ما أجمع على وجوبه والواجب ما كان مختلفا في وجوبه .

                                                      المذهب الثاني : أن الفرض ما ثبت بنص القرآن ، والواجب ما ثبت من غير وحي مصرح به . حكاه القاضي في التقريب " وابن القشيري . وألزمهم القاضي أن لا يكون شيء مما ثبت وجوبه بالسنة ، كنية الصلاة ، ودية الأصابع ، والعاقلة فرضا ، وأن يكون الإشهاد عند التبايع ونحوه من المندوبات الثابتة بالقرآن فرضا . وفرق العسكري بينهما من جهة اللغة بأن الفرض لا يكون إلا من الله والإيجاب يكون من الله ومن غيره . يقال : فرض الله كذا وأوجب ، ولا يقال : فرض السيد على عبده ، وإنما يقال : أوجب ، أو فرض القاضي له كذا ، وقد فرق أصحابنا بين الواجب والفرض في باب الصلاة فسموا الفرض ركنا ، والواجب شرطا مع اشتراكهما في أنه لا بد منه ، وفي باب الحج حيث قالوا : الواجب ما يجبر تركه بدم ، والركن ما لا يجبر ، وهذا ليس في الحقيقة فرقا يرجع إلى معنى تختلف الذوات بحسبه ، وإنما هي أوضاع نصبت للبيان ، [ ص: 244 ] وعبارة التنبيه " تقتضي أن الفرض أعم من الواجب فإنه قال في باب فروض الحج : وذكر أركان الحج من واجباته وهي مؤولة ، وحكى الرافعي عن العبادي فيمن قال : " الطلاق واجب علي " تطلق .

                                                      أو فرض لا تطلق ، وليس هذا بمناف للترادف ، بل لأن العرف اقتضى ذلك ، وهو أمر خارج عن مفهوم اللغة المهجور . وقد رأيت المسألة في الزيادات " وخصها بأهل العراق للعرف فيهم بذلك . قال : وهكذا جواب أصحاب أبي حنيفة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية