الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 120 ] وبالجملة فمن المستقر في فطر الناس أن ما يطلب لغيره فذلك الغير أشرف منه، وأن المقاصد أشرف من الوسائل.

ولهذا يقال: إن العالي لا يفعل لأجل السافل، وإذا كان كذلك، فكل ما يقدر أنه هو المقصود المعبود لذاته دون الله تعالى، فإنه محتاج إلى ما يكون مقصودا معبودا لذاته، فإن الحي لا بد له من إرادة، ولا بد لكل إرادة من مراد لذاته، فإن المراد إما مراد لنفسه وإما مراد لغيره، واذا أريد لغيره فذلك الغير إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره، فإن كان ذلك الغير هو الأول لزم الدور القبلي، وإن كان غيرا آخر لزم التسلسل في العلل، وكلاهما ممتنع. وكل ما دل على أن كل محدث فله محدث، وكل ممكن فله واجب، وأن الممكنات المحدثات لا بد لها من قديم واجب بنفسه، قطعا للدور القبلي والتسلسل في العلل، فإنه يدل على أن كل مريد فلا بد له من مراد، وكل متحرك بالإرادة فلا بد له من غاية، وأنه لا بد لجميع الإرادات والحركات الاختيارية من مراد لنفسه ينقطع به الدور القبلي في العلل، فإذن كل متحرك بالإرادة من المخلوقات، بل كل مريد فلا بد له من مراد لنفسه هي الغاية. والمراد لنفسه أكمل من المراد لغيره، فكل مريد من المخلوقات مفتقر إلى مراد لنفسه يكون أكمل منه، فلو كان شيء محبوبا مرادا لذاته لكان المحب له يحب محبوبه، لأن محبوب المحبوب محبوب، ومراد المراد مراد بطريق اللزوم. فإن استلزام الحب الأول للأول كاستلزام الحب الثاني للثاني، فكما أن المحب لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، فالمحبوب كذلك لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، ولا تتم مصلحة محبوبه إلا بحصول مصلحته، لأنه إذا فسد حال المحبوب فسد حال محبه، فإذا [ ص: 121 ] قدر أن من المخلوقات ما يحب لنفسه، وذلك مستلزم لمحبته محبوبه الذي هو أكمل منه، كان الأكمل محبوبا مرادا بطريق اللزوم والقصد الثاني، وكان الأنقص محبوبا مرادا بطريق الأصالة والقصد الأول. ومعلوم أن هذا فساد ينافي الصلاح، فإن الحب والإرادة إن لم يتعلق بالأشياء على ما تستحقه الأشياء، لزم حال الحب الفاسد.

وأيضا فالفطرة السليمة تنافي ذلك، ولا يقع مثل هذا إلا عند فساد الفطرة وتغيرها. وإلا فمن كان تلذذه بالمآكل الرديئة دون تلذذه بالمآكل التي هي أطيب منها، دل على نوع فساد فيه، وذلك يستلزم الفساد، كما يحصل للمريض من تلذذه بالمآكل الرديئة الضارة دون الجيدة النافعة.

التالي السابق


الخدمات العلمية