الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما العلل الطبعية الموجودة في الخارج، مثل كون الأكل والشرب علة للشبع والري، والإحراق والإغراق علة للحرق والغرق، فكثير من متكلمة أهل الإثبات من أصحابنا وغيرهم لما ناظروا أهل الطبع وأهل القدر في أن الله خالق كل شيء أنكروا أن يكون في العلم علة أو سبب، وقالوا: إن الله يخلق هذه الآثار عند هذه الحوادث، فهؤلاء إذا تكلموا في العلة والسبب لم يدخل هذا في كلامهم، وهذه طريقة كثير من الفقهاء الحنبلية والمالكية والشافعية ومتكلمة أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم. فإذا وجدت في كلام القاضي أبي بكر ابن الباقلاني أو القاضي أبي يعلى أو القاضي أبي الطيب أو أبي إسحاق الفيروزابادي أو أبي الخطاب أو ابن عقيل أو نحو هؤلاء الفرق بين العلل العقلية والشرعية فهذا مرادهم.

وأما جمهور العقلاء من أهل الإسلام وسائر الملل وإن كانوا يردون على أهل الطبيعة الذين يضيفون الحوادث إلى ما دون الله من جسم أو طبع أو فلك أو نجم أو عقل أو نفس، وعلى القدرية الذين يزعمون أن أفعال الحيوان لم يخلقها الله ولا يقدر على خلقها، ويعلمون أن الله خالق كل شيء فلا ينكرون ثبوت الأسباب وأن الله يخلق الأشياء بها، كما نطق بذلك الكتاب والسنة، وكما اتفق عليه [ ص: 211 ] سلف الأمة والسالمو الفطرة من أهل الملة. قال الله تعالى: وهو الذي يرسل الرياح إلى قوله: فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات ، وقال تعالى: وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وقال: فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ، وقال تعالى: فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ، وقال تعالى: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، وقال تعالى: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا . وهذا كثير في الكتاب والسنة. فمن قال: لا يقال: إن الله يفعل بها، وإنما يفعل عندها لا بها، فقد خالف الكتاب والسنة وفطر العقلاء.

فإن قلت: قد ذكرت أنه ليس في الوجود علة تامة وحدها إلا مشيئة الله، فكيف تصنع بالإحراق والإغراق والإزهاق والتكسير والتعليم ونحو هذه الأفعال التي لها أفعال مطاوعة، فإن الكسر مستلزم للانكسار، والإحراق مستلزم للاحتراق، والإزهاق مستلزم للزهوق، ونحو ذلك.

قلت: الإحراق ونحوه إما أن يعنى به فعل المحرق فقط، أو يعنى [ ص: 212 ] به فعله وقبول المحترق، فإن عني به فعل الفاعل فقط فهو من العلل المقتضية لا الموجبة، يقال: أحرقته فلم يحترق، وعلمته فلم يتعلم، وكسرته فلم ينكسر، وإن عني به فعل الفاعل وقبول القابل فهما أمران مركبان.

وهذا طرد قولنا: ليس في الوجود علة تامة إلا مركبة سوى مشيئة الله تعالى، وقد تقدم الكلام على الصفات والأحوال هل تدخل في العلل أم لا. فهذا أحد القسمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية