الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثالث: الموقف الوسط

وهو الموقف الذي يسجل لمحمد علي إنجازاته ويعتد بها، ويسجل عليه أخطاءه وهفواته، ويزن لكل جانب ما له من أهمية وقيمة وتأثير في النهضة، مثل مسعود ضاهر، ومحمد عابد الجابري، وعبد الإله بلقزيز، وغيرهم... وإن كانوا في مجملهم يمثلون الفكر العربي أكثر من حضورهم الإسلامي.

- مسعود ضاهر: فقد اعتبر مسعود ضاهر أن من إيجابيات مشروع محمد علي نصحه السلطان العثماني توحيد السلطنة على قاعدة الجهاد، التي يدعو إليها الدين الإسلامي، وتجاوز مرحلة الضعف والانحطاط على قاعدة إصلاحات جذرية وفورية وشاملة على النمط الأوربي، مع رفض سياسة القروض طويلة الأمد، على عكس ما فعل خلفاؤه الذين تركزت سياستهم الاقتصادية على الاستدانة، مما أوقع مصر تحت الاحتلال فيما بعد [1] .

 ومن الأخطاء التي يأخذها مسعود ضاهر على محمد علي، أنه توهم أن الصراع الفرنسي البريطاني صراع استراتيجي لا يوحي بالتفاهم بينهما على اقتسام المغانم على حساب البلدان الأخرى، في حين أن التناقض الظاهري بين الدول الاستعمارية كان تناقضا مصلحيا لا يمكن الركون إليه، وقد وقع محمد علي في سياسة تضخيم ذلك التناقض، الذي وقع فيه معظم

[ ص: 148 ] الإصلاحيين، وقد تبين له خطأ ذلك التصور بعد تخلي الفرنسيين عنه في مؤتمر لندن عام 1840م.

 فقد أدركت الدول الغربية منذ البداية خطورة التوحيد بين الولايات العربية، خاصة بعد اكتشاف الثروات الطبيعية الهائلة فيها، ولذلك حاربت وجود جيش عربي قوى في هذه المنطقة، ورغم القضاء على تجربة محمد علي فإن الدول الغربية شديدة الحساسية ضد وجود هذا الجيش وضد كل أشكال التوحيد في المنطقة، ولذلك دعمت المشروع الصهيوني في فلسطين في أعقاب هزيمة محمد علي في بلاد الشام، وما زالت تدعمه حتى الآن [2] .

 كذلك يؤخذ عليه في تعامله مع الغرب استفادته المحدودة من تنوع نماذج التحديث الأوروبية، فقد أبقى الطابع الشمولي لحركة التحديث في عهده فرنسيا وحيد الجانب، فأدخل مصر في دائرة الصراع الدولي المباشر مع الفرنسيين والإنجليز والروس، لذلك بقيت مصر أسيرة النموذج الفرنسي، عبر خبراء فرنسيين وبعثات علمية إلى فرنسا وارتهان شبه تام بتقلبات السياسة الفرنسية في شرق البحر المتوسط.

- محمد عابد الجابري: ويركز محمد عابد الجابري على العوامل الخارجية [3] فيما أصاب النهضة العربية، متمثلة في بواكير هذه النهضة، نهضـة محمد علي، أو حتى المشروعات اللاحقة في الوطن العربي، فيرى أن

[ ص: 149 ] ما أصاب التحديث والتقدم من انتكاسات في الوطن العربي بوجه عام، يرجع في الأساس لا إلى المقاومة الداخلية من القوي المحافظة في المجتمع العربي، بل إلى الدور التخريبي الذي قام به الوجه الآخر للحداثة الأوروبية، والذي قوامه الداخلي «القوة» أو «المنافسة» وتطبيقه الخارجي «التوسع الاستعماري» و «التنافس الغربي» الذي أجهض المشروع الحضاري العربي.

لا ينكر أنصار هذا الاتجاه، أخطاء محمد علي وفشل مشروعه النهضوي، ويركزون على منطقة أخرى في تعامله مع الغرب لم يركز عليها أنصار الاتجاهين السابقين، وهي عدم إدراك محمد علي لنوايا الدولة الغربية الاستعمارية تجاه مصر والدولة العثمانية، أو كما يسمونه الوجه الآخر للحداثة الأوربية [4] .

ومهما يكن تقييمنا لهذه التجربة، فإن من ملامحها الكبرى أنها ظلت أسيرة النموذج الفرنسي –في الغالب- والذي ستترجمه رحلة الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي إلى فرنسا، والتي وثقها في كتابه المهم في التأريخ لبدايات فقه الاستغراب الحقيقية: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وهو موضوع مبحث مقبل، أقدم له بمبحث يلخص سؤال النهضة في الفكر الإسلامي الحديث.

[ ص: 150 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية