الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثاني: أحمد بن أبي الضياف

نعم للنسخة الفرنسية، ولكن؟

لقد غادر المؤرخ ابن أبي ضياف تونس ضمن وفد لأستانبول سنة 1831م ثم عاد في سفارة ثانية سنة 1842م أيام أحمد باي الذي بلغ في أيامه رتبة (باش كاتب) وإن كان من الناحية العملية وزيرا دون لقب، لذا اصطحبه الباي معه أثناء رحلته إلى باريس سنة 1846م، وهناك وقف بنفسه على صحة ما قرأه في تخليص الإبريز للطهطاوي. وإليك فقرة تصور مدى انبهار الوفد الذي صاحب أحمد باي: ثم خرج (الملك أحمد باي) من تولون إلى باريس راكبا كروسة من الدولة تجرها ستة من الخيل وبقية من معه في كراريس تجر بأربعة ويقع تبديل الخيل والسائقين بعد كل ساعتين. وقطع بذلك مسـافة شهرين في ثمـانية أيام، إلى أن وصـل إلى باريس وما أدراك ما باريس، هي الغانية الحسناء، الباسم ثغرها في وجوه القادمين، مشحونة بأعاجيب الدنيا، جامعة لأشتات المحاسن ينطق لسان عمرانها الزاخر بقوله: (كم ترك الأول للآخر) ...وكانت باريس وسهراتها، والشانزيليزي البديعة وفرساي الرائعة، وكان أحمد باي يردد: «ليت هذا عندنا بتونس».

[ ص: 207 ] وكان ابن أبي الضياف لا يكف عن التعجب والدهشة في الفقرات، التي خصصها للحديث عن رحلة الباي من كتاب «إتحاف أهل الزمان» [1] .

وتشبه انطباعات ابن أبي الضياف عن الآثار الباريسية انطباعات الأمير عبد القادر إلى حد بعيد. ولقد كان خياله مشحونا بصور باريس كما نقلها الطهطاوي لمصر وغيره من التونسيين الذين زاروها. لقد كانت الرحلة صحبة الباي (8 نوفمبر / 31 ديسمبر 1846م) بمثابة الحلم. يقول الوزير المؤرخ : «إلى أن وصلنا إلى باريس...المشحونة بأعاجيب الدنيا، جامعة لأشتات المحاسن، ينطلق لسان عمرانـها الزاخر بقوله: كم ترك الأول للآخر، ما شئت من علوم وصنائع وثروة وسياسة وظروف وحضارة وعدل تزكو أثماره وتسطع أنواره. تموج شوارعها بالسكان في مراكز الأمن ومضاجع العافية، يقودهم الأمل ويسودهم الحرص على العمل، ولو تتبعنا الرحلة لكانت كتابا مستقلا، وقد أعطاها حقها رفاعة الطهطاوي واجتمعت به فيها» [2] .

وإن كان الأمير عبد القادر قد انجذب للنموذج الأوروبي بعد نضال خذله فيه أغلب المسلمين، فإن ابن الضياف تبنى المركزية الأوروبية من قبل احتـلال تونس، وإن كانت قد اخترقت اقتصـاديا وسياسيا. والأكيد أن

[ ص: 208 ] ما حببه في فرنسا هو وجود ما يفتقده في بلاده. يقول في فقرة معبرة: (إن السالك في الطريق يشاهد معنى العمران وصورة التقدم في ميادين الحضارة ونتيجة الأمن والأمان. لا تكاد تجد موضعا معطلا من نفع) شجرة أو حرث أو كلأ مستنبت يسقى جميعها بغيوث العدل وسيوله المفعمة. يود السالك في تلك الطريق السهلة أن المسافة تطول لما يشاهد من حسن الطريق وما حف به من الأبنية والأشجار والمراتع والأنهار وكثرة المارين على اختلاف الأنواع، لا تكاد تسمع صوت متظلم إلا من نفسه. ولا ريب أن الوزير المؤرخ يتفق مع الباي في حلمه الذي صـوره فيما نقله عنه عنـدما قال: ولم يزل (أي الباي) مدة إقامته في باريس ينتقل كل يوم من نزهة إلى نزهة.. ويقول عند مشاهدة كل عجيب:ليت مثل هذا عندنا في تونس [3] .

وكان ابن أبي الضياف طوال حكم أحمد باي (لسانه الذي يتكلم به) ، إلا أن حياته الوظيفية أخذت منعطفا جديدا إثر وفاة الباي وتولي ابن عمه محمد باي، فقد نقصت مسؤولياته، لكنه رغم ذلك كلف بتحرير أول دستور سمي بقانون عهد الأمان سنة 1857م.. ولم تعد إليه فعاليته إلا بعد تولي صديقه خير الدين التونسي الوزارة الكبرى سنة 1870م [4] .

كان الأمير عبد القادر- كما قلنا سابقا – قد انطلق من المركزية الإسـلامية ووصل بعد تجربة الأسـر وزيارة الغرب إلى الأخوة الإنسانية،

[ ص: 209 ] إلا أن المؤرخ الوزير ابن أبي الضيـاف لم يقطـع نفس الطريق، ليس لأنه لم يتطور، بل لأنه كان – وفي توليفة عجيبة - يجمع بين المركزية الإسلامية والإعجاب بالغرب، أي بين النقطتين: تلك التي انطلق منها الأمير وتلك التي وصل إليها. في فكر ابن أبي الضياف إيمان بسلامة التصور الإسلامي وإعجاب غير محدود بالحضارة الغربية، في موقفه تسليم بـ (روح العصر) و (ضرورة الوقت) و (حال الزمان) ، وقناعة بأن كل ذلك متضمن في روح الشريعة الإسلامية.

إنه جريء في السياسة محافظ إلى أقصى الحدود في قضية المرأة -مثلا- يرى بأن الاجتهاد لا ينقطع، ولكنه يعتبر تعليم المرأة مما نهى الشرع عنه لأنه تشبه من النساء بالرجال [5] .

ورغم إعجـابه بالحضـارة الغربية وبالنسخة الفرنسيـة بالذات، فإنه لم يكن غافلا عن أمرين مهمين:

- أن ما ينسب لأوروبا من التزام بحقوق الإنسان والوقوف عند احترام القانون لا يصح إلا بالنسبة للأوروبيين وببلادهم، فنراه يقول: إن انقياد أهل أوروبا للحق والإنصاف من أنفسهم مشهور معلوم، لكنه ربما يقال: إن ذلك في بلدانهم، أما في غيرها فقد تتغير طباع بعضهم... والحاصل أن هؤلاء (يقصد الوافدين من تجار أوروبا) لا يريدون القانون في الحكم لهم من أهل المملكة، ويعدون ذلك من التطويل في الحكم إلى غير ذلك مما لا يساعد

[ ص: 210 ] أغراضهم.. فاعتبروا يا أولي الأبصار، أترون عدل ملوك أوروبا يسوغ الاحتماء من الحق والإعانة على الباطل [6] .

ويقول في موضع آخر عن الفرنسيين: «ولا يستغرب ذلك في حسن أخلاق هذا الجنس وبشاشتهم وحريتهم التي اقتضت أنهم لا يستكبرون وميلهم للإنصاف، لكن هذا الأخير في بلدانهم، فإذا خرجوا منها ربما بعدوا عن هذا الميل إلا ما قل منهم» [7] .

- مطامع فرنسا في الاستيلاء على تونس خاصة بعد أن أصبحوا (جيرانا) والقصد استيلاؤهم على الجزائر.

لقد فكروا لعصرهم، الذي كان خطره الأكبر هو التخلف و (الجمود) ، وليس لعصرنا الذي أصبح خطره الأعظم (الذوبان والانسحاق في حضارة الغزاة) ، ومهما يكن من درجة الافتتان والانبهار بالغرب، ودرجة التعلق بالجذور والهوية والمرجعية الإسلامية، فإن وقفة متأنية مع هذه الفترة في آفاق هذا البحث كفيلة بإماطة اللثام عن حقيقة الإطلالة الأولى لهذه المنطقة على أوروبا، وحقيقة قراءة مفكريها ونخبتها للغرب آنذاك.

[ ص: 211 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية