الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مقدمة

الحمد لله الذي يقول: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13)،

والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه إلى يوم الدين.

أما بعد،

فقد انطلقت ظاهرة (الانفتاح على الغرب) في العالم الإسلامي منذ قرون. ومعرفة المقدمات التاريخية والاجتماعية والخلفيات الدينية والثقافية لهـذه الظـاهرة لازمـة، إذ إن أي ظـاهرة فكرية أو علمية أو اجتماعية أو سياسية لا توجد دون مقدمات، بل إن ثمة مركبا من الأسباب أدى إليها، وهي جزء من نسيج مجتمعي حضاري ترك فيها تحيزاته وتوجهاته وآلامه وأحزانه وأفراحه وأتراحه ورؤاه. ومن شأن هذا البحث أن (يحيط) بالظاهرة الغربية – (آخرنا) في هذا البحث - في بعدها المعرفي والفكري والفلسفي، والتأكيد على خصوصيتها ومحدوديتها حتى يتسنى ابتكار (الوسائل) الناجعة لقراءة الغرب على أسس علمية ومنهجية، بعيدا عن الرجم بالغيب، وبعيدا عن السماح للعاطفة غير العاقلة بطبع قراءتنا وما يصدر عنها من مواقف تجاه الغرب بطابع الارتجالية والعفوية والحماسية المفرطة والمفرطة- بكسر الراء المشددة-، خاصة في ظروف دولية جديدة يعتبر فيها الموقف من الغرب [ ص: 23 ] والنظرة إليه أمرا من أشد الأمور حساسية، وفي وقت توارثنا فيه وضعا فكريا وسياسيا انقسم فيه (القوم) في موقفهم من الغرب من مبغض كاره إلى عاشق ولهان.

والمشكلة أن اتخاذ موقف من هذا (الغرب) يبدو أمرا لا مفر منه – ولو على الصعيد النفسي- لدى كل إنسان عربي ومسلم، سواء كان ذلك بسبب المركزية الغربية الطاغية في العالم في هذا العصر، أو بسبب التدخل والتداخل المباشر أو غير المباشر من قبل الغرب في كثير من شؤون المنطقة (الإسلامية) وشجونها على مر السنوات الطويلة الماضية، ويزيد الإشكالية تعقيدا أن تلك المواقف - أيا كانت طبيعتها- غالبا ما تتخذ بناء على قراءة سطحية أو مجتزأة أو منفعلة أو مستعجلة للغرب - بينما الأصل أن يكون الفهم الشمولي والدراسة المتأنية المدخل إلى اتخاذ المواقف وفقا للقاعدة المنهجية التي تؤكد أن «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» [1] .

ولذلك فإن حكمنا على (الغرب/الآخر) يتطلب تحرير المقال في تصور حقيقته وماهيته، حتى لا يصدر حكمنا - موقفنا- عن خيالات فكرية ونفسية تفوت علينا متعة البحث العلمي الرصين الذي من مرتكزاته (العدل) الفكري والسياسي والحضاري: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو [ ص: 24 ] أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (المائدة:8)،

والعدل بهذا المفهوم -وفي هذا الإطار- شرط ضروري لمسألة ترتيب علاقة صحية مع (الآخر/الغرب) ولبنة أساسية لتحقيق المشروع النهضوي المستقبلي.

ولقد مر هذا الاحتكاك الحضاري بين الإسلام والغرب بمراحل وجولات عديدة أبرزها:

الجولة الأولى مع الفتوحات الإسلامية، ثم الجولة الثانية مع الحروب الصليبية (ق11-ق13م)، ثم الفتوحات العثمانية، التي كانت بداية للتوغل الإسلامي في أوروبا النصرانية، وأتت الجولة الرابعة وهي استعمار العالم الإسلامي الذي تم فيه التحالف بين الصهيونية والصليبية لنهب ثرواته، وبدايات محاولة صياغة الحياة الإسلامية على النمط الغربي عبر مجموعة من الوسائل والأدوات، كان أهمها الاستشراق الذي فعل فعله في نخبة من مثقفينا، الذين عمـلوا على تشويه كثير من القيم الإسـلامية -بحسن نية أو بسوئها- جراء الانبهار بـ(الآخر)، فكانت الدعوة لدخول جحر الضب الغربي تارة صريحة وتارات خافتة.

وقد رافق علاقة الاحتكاك هذه بعد حضاري وثقافي شديد الوضوح والاستقطاب يمكن حصره في المراحل التالية:

1- حصول «حركة الترجمة» في أواخر الدولة الأموية، ثم تطورها في عهد الدولة العباسية. [ ص: 25 ]

وقد كان تأثير الغرب - هنا - تأثيرا اختياريا تم بمبادرة من المسلمين ورغبة منهم في الاستفادة من المنجز الغربي الروماني و(الفارسي)، ولم يكن فعلا ثقافيا مفروضا من (الآخر).

2- تأثير الإسلام - بفعل التفوق الحضاري والعسكري - على مراكز الضعف الثقافي والحضاري في الغرب، كان من نتائجه - بعد الحروب الصليبية - حدوث ما يسمى بالاستيقاظ الغربي، توج بعصر النهضة الأوروبية فيما بعد.

3- المرحلة الثقافية الثالثة: وتتميز فيها العلاقة مع الغرب بـ«التغريب» الذي بدأت جذوره منذ غزو نابليون لمصر عام 1798م، حيث تمكن الغرب خلال هذه المرحلة من توجيه طلائع «المثقفين العرب» إلى الفكر والفلسفة الأوروبية، لتبدأ حركة الترجمة الثانية، ولكنها هذه المرة مفروضة من الخارج المتفوق.

فهل سيكون (الاستغراب) المحطة المقبلة في التدافع الإسلامي الغربي في بعده الثقافي؟

إنها الدعوة التي ستحمل هذه المحاولة لواءها، إن شاء الله؛ دعوة لتجلية هذا المفهوم في أبعاده الدينية والحضارية والثقافية؛ ودعوة لمحاولة تصحيح الوضع غير المتوازن بيننا وبين الآخر/الغرب؛ ودعوة لإنهاء الأشكال الجديدة للهيمنة الغربية ومنها: الاستشراق الجديد والعولمة بشتى مظاهرها، ولصياغة حقيقية لحوار الثقافات والحضارات.. دعوة ترتكز على: [ ص: 26 ]

- إدراك خطورة العلاقات غير المتكافئة على مستقبل العالم الإسلامي إدراكا جيدا واعيا.

- التنبيه لاتخاذ استراتيجية عملية تجسد هذا الإدراك في بعده الفكري الثقافي، على مستوى الاستمرار في بعث البعد العقدي الإسلامي لشحذ همم الأمة وتحريضها على التمسك بالهوية والممانعة الإيجابية تجاه الغرب، وبعث الفكر الإسلامي الأصيل المقاوم والممانع ونشره بين الناس ليكون الركيزة الأساس لنهضة مقبلة.

- قيام «فقه» جـديد يهتم بدراسـة الغرب أو (علم الاستغراب) كما سماه الدكتور حسن حنفي؛ فقه تقوم عليه مراجع علمية إسلامية تدرس الغرب وتفهم منطلقاته وأهدافه ونظم حياته الثقافية والفكرية؛ فقه يقوم على أساس علمي وعملي، فقه له منطلقات ومرجعية واضحة، وله وسائل وأدوات ناجعة، وله أهداف وطموحات نافعة لهذه الأمة في حالها ومآلها.

إن طموحي في هذا البحث، وإن كان لا يرقى إلى المستوى التنظيري لفقه الاستغراب؛ لأن هذا الجهد يحتاج إلى مراجع علمية كبيرة في المجال من علماء ومفكرين ومؤسسات أكاديمية إسلامية متخصصة، فإنني سأحاول رصد (فقه استغراب) ينطلق من:

1- استثمار الزخم الإسـلامي الصحوي الهائل لكسر حدة الانبهـار بالغرب، وتعزيز الشعور بالانتماء والتميز الحضاري والفكري للأمة الإسلامية. [ ص: 27 ]

2- نقد مفاهيم وقيم الغرب الثقافية دون تعسف، بروح علمية ورؤية مؤمنة تتوخى الفهم العميق لـ (الآخر) قصد الاستفادة من إيجابياته والإسهام في تصحيح سلبياته والشهادة عليه.

3- رصد تجارب عملية في التعامل مع الغرب، الذي بدأ يعرف تحولات خطيرة على المستوى الداخلي والخارجي، خاصة بعد 11 سبتمبر 2001م، لتكوين مشروع رؤية تؤسس لأن يصبح الغرب موضوعا للعلم بعدما ظل مصدرا له لفترة طويلة.

لقد مس حديث النهايات كل شيء تقريبا في العقود الأخيرة: الله، الإنسان، العقل، التاريخ، الأديولوجيا، الميتافيزقا، القومية، الدولة، الحداثة... إنه موكب جنائزي صاحب كثيرا من المقولات الغربية، فهل هذا الحديث تعبير حقيقي عن مأزق الغرب وأزمته وانسداد أفقه وعن غروب حضارته وزوالها؟

وهل سيكون حديث «فقه الاستغراب» حديث البدايات للاستئناف الإسلامي والشهود الحضاري، الذي ظل آفلا طيلة الزمن الغربي؟

إنها الرسالة التي سأحاول بعثها عبر هذه الدراسة من خلال مجموعتين أساسيتين من المداخل:

مداخل نظرية: تؤصل لمجموعة من المفاهيم والقضايا التي تؤسس لفقه الاستغراب الإسلامي مثل: الآخر، الغرب، الاستغراب، التغريب...

مداخل تاريخية: ترسم خريطة عامة لاتجاهات الاستغراب في الفكر الإسلامي واستحضار مجموعة من التجارب التاريخية الحديثة والمعاصرة في التعاطي مع التجربة الغربية. [ ص: 28 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية