الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثالث: دوائر (الآخر) في القرآن الكريم

- الدائرة الأولى: (الآخر) الداخلي

تكون المرجعية فيها للإيمان وللمسؤوليات السياسية والاجتماعية المترتبة عنه، ورغم ذلك فقد يحصل ما يفرق بين المؤمنين المؤلفين للجماعة المسلمة حينما يخل بعضهم بشروط التعامل المنصوص عليه في عقد الإيمان، فتصبح فئات من بينهم (آخر)؛ والذي يعطي هذا (الآخر) تشكله ويرسم للذات حدود التعامل معه هنا هو شرع الله، فكلما التزم المرء داخل دائرة الإيمان بالأوامر والنواهي تقلص الخطر من أن يصبح (آخر) يتعامل معه بشروط النفي [1] .

وبرجوعنا إلى التوبة (الآية 100-106) نلمس هذه المفاهيم: تضمن أحكام نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم، وتصنيف المجتمع المسلم ذاته وتحديد قيمه ومقاماته وأوضاع كل طائفة وكل طبقة من طبقاته.

والأصناف التي حددتها الآيات يمكن رصدها كما يلي:

( والسابقون الأولون... ) : هذه الطبقة من المسلمين بمجموعاتها الثلاث: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ) كانت تؤلف القاعدة الصلبة [2] للمجتمع المسلم في الجزيرة بعد الفتح، والتي ولدت على محك الشدة لتشكل قوة متماسكة من خلال تجمعها الحركي العضوي الجديد تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم. [ ص: 43 ]

- ( وممن حولكم من الأعراب منافقون... ) : هذا الصنف من (الآخر) حذق النفاق، ومرن عليه، ولج فيه، ومرد حتى ليخفى أمره على رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم اتصاله بالوحي! فكيف يكون؟ والله سبحانه يقرر أن هذه الفئة من الناس موجودة في أهل المدينة وفي الأعراب المحيطين بالمدينة، ويطمئن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، من كيد هذه الفئة الخفية الماكرة الماهرة كما ينذر هؤلاء الماكرين المهرة في النفاق بأنه سبحانه لن يدعهم: ( لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ) .

- وبين المستويين المتقابلين، مستويان بين بين.. أولهما: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم... ) : وأمر الله لرسوله بإجراء معين مع هذه الطائفة دليل على أنها كانت معينة بأشخاصها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر [3] .

- وهناك فريق آخر لم يبت في أمره وقد وكل أمره إلى الله: ( وآخرون مرجون... ) : وهذا (الآخر) الداخلي، الذي ينتمي إلى نفس الفصيل العقدي لا يتحدد بعرقه ولونه ولا بلغته وواقعه الطبقي ومكان وجوده الجغرافي، بل يتحدد بمدى التزامه بشرع الله، من خلال تجاوبه مع متطلبات العضوية الحقة في المجتمع الإسلامي [4] . إنها تجليات (الآخر) من داخل (الذات) التي أنشأها الإسلام منذ بداياته. [ ص: 44 ]

الدائرة الثانية: (الآخر) الخارجي

هو النقيض العقـدي والتكويني والسياسي وربما الجغرافي أيضا، يقول تعالى: ( قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) (آل عمران: 13)،

إنه صراع تناقضي واضح تمثله جماعتان لهما برنامجين نقيضين، وصلت حدة التناقض بينهما إلى إعلان الحرب الشاملة: جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي (الذات) التي يعبر القرآن عن برنامجها العقدي والسياسي والاجتماعي والفكري، وجمـاعة قريش (الآخر المستقـل بذاته خارج دائرة السيادة الإسلامية)، ذات المشروع الكفـري النقيـض والمناهض للمشروع الوليد الموحد



[5] . [ ص: 45 ]

ولقد رسخ الإسلام مجموعة من المبادئ والقيم المرنة التي تؤطر حركته في علاقته بالآخر، حيث قد يقبل الآخر/النقيض الخارجي أحيانا، يقول ( في حالة أولاد المشركين الآخرين الخارجين: ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (الإسراء:15)،

بل أقر التعايش مع الآخر المناقض للذات وقيده، قال ( : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8)،

فحين ينتهي العداء والخصومة بين الإسلام و(الآخر المفارق) لابد من إشاعة الـبر والقسط في العلاقة المتبادلة معه.

فالأمر، إذن، ليس خصوصية عداء للغرب، ولا خصوصية موالاة للشرق، فإن كلا من الغرب والشـرق يتضمن البر والفاجر، وينتظم في سلـكه المسـلم والـكافر، ولا يعقد ولاء ولا براء في الإسلام على غرب ولا شرق، وإنما يعقد على أساس الإيمان بالله ورسله، فقد حرر الإسـلام بني البشر من التعصب للأعراق والألوان والألسنة، ومحض ولاءهم للحق، الذي نزل من عند الله، وأمرهم أن يكونوا قوامـين بالقسـط شهـداء لله ولو عـلى أنفسـهم أو الوالـدين والأقربين؛ لقـد بلغ الإسـلام على درب العدالة الموضوعية والإنصـاف الحـد الذي جعله لا يهمل الفروق الدقيقة بين فصائل وتيارات أي (آخر) من الآخرين.. فلم يعمم الأحكام والأوصاف على أهل الكتاب، ولا يسوي بين فصائلهم وتياراتهم وفرقهم.. [ ص: 46 ] بل يقعـد لقاعـدة (عـدم التعميم) هذه فيقول: ( ليسوا سواء ) (آل عمران:113) [6] .

ولم يقف الإسلام بهذا الأفق عند هذا الحد، وإنما امتد به ليشمل المتدينين بالديانات الوضعية، وعاملهم معاملة أهل الكتاب حيث قال (: «سنوافيهم سنة أهل الكتاب» في الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس، فقال عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه: أشهد لسمعت رسول الله( يقول: (سنوافيهم سنة أهل الكتاب). [7] .

كان هذا هو موقف الإسلام – غير المسبوق وغير الملحوق- في الاعتراف بكل (الآخرين) الذين يتركونه ويجحدونه... بل قد تجاوز الاعتراف بهم والقبول لهم، ووصل إلى حد جعلهم جزءا من (الذات)، ذات الدين الإلهي الواحد وذات الأمة الواحدة، بل جعل تمكينهم من حرية إقامة جحودهم بالإسلام شرطا من شروط اكتمال عقيدة الإسلام وإسلامية الدولة [8] ، يقول د.مراد هوفمان: يصعب على الكثيرين من مراقبي الغرب تفهم المسلمين حين يزعمون أن الإسلام إنما هو دين السماحة المطلقة بلا منازع، ومع ذلك إن هذا هو الحق... والجوهر الكامن في هذا الموقف الشامل للتقبل المتسامح للآخرين فكريا وعلميا هو الحقيقة التي نص عليها القرآن حقا وجعلها أصلا أساسيا في العلائق، وحرم انتهاكها على الخلائق [9] . [ ص: 47 ]

الدائرة الثالثة: (الآخر) المزدوج

قد يكون (الآخر) داخليا وخارجيا في الوقت نفسه.. داخلي باعتبار الحيز الجغرافي الذي يميزه عن الأنا، ونقصد بذلك الجماعات التي لا تنتمي بالضرورة إلى جماعة المؤمنين، ولكنها تعيش معها تحت سيادة الحكم السياسي الإسلامي.

ومن روائع القرآن في تقنين العلاقة مع (الآخر) اعترافه لهذا (الآخر) بالحقوق المدنية نفسها التي يقرها لأتباعه،

يقول: ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) (المائدة:106)،

هذا الاعتراف المبدئي ب (الآخر الداخلي) جغرافيا والمغاير ثقافيا ودينيا، يعتبر موقفا متقدما لمصلحة الجماعة الإنسانية، ويندرج ضمن فلسفة متعارضة مع النفي المطلق القائم عليها المجتمع القبلي [10] .

فهؤلاء الذين ينتمون إلى دائرة الإيمان جغرافيا وإلى دائرة الكفر إديولوجيا خاطبهم القرآن الكريم باعتبارهم عنصرا مكونا لمجتمع الإيمان، ولذلك طالبهم بالالتزام بشروط هذا الانتماء، وكشف للمسلمين -في العديد من المرات- ألاعيبهم وخياناتهم، دون أن يذكر لهم أسماءهم.. وهذا الموقف ينبع من السعي إلى الاحتفاظ بوحدة المجتمع: ( ستجدون آخرين [ ص: 48 ] يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ) (النساء:91) [11] .

إذن، فشروط الانتماء: ( يعتزلوكم ) ؛

( ويلقوا إليكم السلم ) ؛

( ويكفوا أيديهم ) .

والخلاصة: إن العلاقة مع الآخر الداخلي (جغرافيا وفكريا) تختلف بكثير عن الآخر الداخلي (جغرافيا) الخارجي (عقديا)، وإن حدة التنافر بينها وبين الجماعة المسلمة تتباين إلى حد كبير [12] .

كانت هذه جولة سريعة مع حضور (الآخر) في القرآن - أو في بعض آياته على الأقل- عبر صور مختلفة ومتعددة، أردنا من خلالها تأكيد أن لكل نسق حضاري محدد نصه المرجعي، الثقافي السيـاسي الخاص به والذي يلخص مجمل تجربته البشرية الاجتماعية، وكان التركيز على إشكالية العلاقة مع (الآخر).

وفي الفصل الموالي نسلط الضوء على النص النبوي معيارا لتحديد ماهية (الآخر) ودوائر التماس معه، ليكتمل تأصيل صورة هذا (الآخر) في المرجعية الإسلامية، باعتبار النص النبوي الوثيقة العملية التطبيقية والتجربية الواقعية الحية والمرآة الصادقة، التي عكست فلسفة القرآن في العلاقة مع (الآخر). [ ص: 49 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية