الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الرابع

في منظور فقه الاستغراب والاستغراب المقلوب (التغريب)

البحث الذي بين أيدينا لا يسعى إلى الإسهام في بناء منظور ومنهجية نهائية للتعامل مع الآخر الغربي، بل سيكتفي بالبحث في جذور الغرب الثقافية والمعرفية التي شكلت -ولا تزال- تعامله مع غيره، مع إظهار الاستعدادات الثقافية التي مكنت الغرب من أن يبلور، بوساطتها صورة عن ذاته، ويشكل صورة مشوهة للآخر لتأكيد ذاته، والتمركز المستعلي على غيره، والتعريف بمصادر خطاب السيطرة على البشر بعد السيطرة على الطبيعة، وأيديولوجية الهيمنة.

وهذا لا يمنع من تأكيد أنه يجب بناء منهجية للتعامل مع الفكر الغربي بكل صوره ومستوياته؛ منهجية تمثل حلقة أساسا في بناء فقه الاستغراب على دعائم أهمها:

1- بناء منهجية معاصرة وفعالة للتعامل مع القرآن الكريم والسنة النبوية.

2- بناء منهجية جديدة للتعامل مع الفكر الإسلامي والفكر الغربي على السواء.

3- بناء النظام المعرفي الإسلامي على أسس المنهجية والمعرفة. [ ص: 79 ]

وقد بدأ هذا المشروع أحد المسلمين الخبراء بالغرب «المرحوم إسماعيل الفاروقي» ببعض المقالات منها: «نحن والغرب»، و «صياغة العلوم الاجتماعية» [1] .

4- صياغة خطاب عالمي كوني: ولكي يتم بناء منهجية علمية في إطار فقه الاستغراب لابد من التركيز على رصد البواكير الأولى لاستراتيجية إلحاق العالم الشرقي بالعالم الغربي ودور المؤسسات العلمية في ذلك، وكيف اعتمدت على تغيير أجهزة الوعي عند الإنسان العربي المسلم لضمان تحقيق عملية «استتباع» منهجية دائمة تغذيها دوافع التابع ورغباته أكثر من محفزات المتبوع ومغرياته [2] .

ومن مظاهر هذه المنهجية:

تحليل الأبنية الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية والفكرية التي ظهرت فيها بواكير ومقومات الاستتباع الغربي للشرق.

الرجوع إلى الأصول والمصادر الأصلية للفكر الغربي.

وقد ظهرت الدعوة إلى (علم الاستغراب)- بتعبير حسن حنفي- Occidentalisation في مواجهة التغريب Westernisation الذي امتد ليس فقط إلى الحيـاة الثقـافية وتصـوراتنا للعالم وهدد استقلالنا [ ص: 80 ] الحضاري، بل امتد إلى أسـاليب الحياة اليومية ونقـاء اللغـة ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة.. [3] ، فعندما تثير صدمة المواجهة مع الحضارة الغربية ردود أفعال مختلفة عند الغرباء عنها، منهم من يصاب بحالة من الانبهار تفقده نفسه، حتى إذا بدأ البحث عنها لم يجدها إلا في الذوبان الكامل في تلك الحضارة، وهـؤلاء هم دعاة التغريب [4] ، فالتغريب إذن نوع من الاغتراب Alienation بالمعنى الاشتقاقي للفظ، أي تحول (الأنا) إلى (آخر) [5] .

ولذلك تأتي أهمية دراسة الغرب لمواجهة حالة الانبهار، التي أصابت كثيرا من أبناء الأمة الإسلامية، فيرى بعضهم أن النظـام السياسي الأمثل هو الذي أوجـدته الحضـارة الغربية. وقد دعا مطبقاني إلى هذه الدراسة قائلا: «انظر كيف يدرسـوننا، وكم يبذلون من الجهـود والأموال لمعرفة ما يدور في بلادنا. وهـل نحن ندرسهم بالمقـابل؟ بل قبـل ذلك هل عرفنا أنفسـنا كما يعرفون عنا؟ إن هذا الأمر يحتاج من مفكرينا وعلمائنا وقفة متأنية» [6] . [ ص: 81 ]

ولقد كان من أوائل من استعمـل مصطلح (الاستغراب) بالمعنى الأول - دراسة الغرب- [7] الدكتور أنور عبد الملك في مجموعة من كتاباته.

كما أصبـح على علمـاء الشرق الذين يدرسـون المجتمعات الغربية أو المذاهب العلمية القائمة أن يتقنوا الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية والإيطالية والإسبانية.. أليس على علماء الشرق أن يتكلفوا تكاليف باهظة للإطلاع على مختلف المعارف في الغرب، وفي أوروبا وفي أمريكا الشمالية خاصة؟، وهل سيكون علينا من أجل ذلك أن نؤسس مؤتمرات للعلوم الإنسانية في أوروبا وفي أمريكا الشمالية، وأن نطلق على المختصين الذين سيهتمون بهذه العلوم اسما جديدا هو: المستغربون؟ [8] .

ولكن، كيف ندرس الغرب؟

إن أردنا أن ننجـح حقا في معرفة الغرب والإفادة من المعطيات الإيجابية للحضارة الغربية لا بد من التخطيط الفعال. وقد يحتاج هذا الأمر إلى عشرات اللجان في العديد من الجامعات العربية والإسـلامية لوضع الخطط اللازمـة لهذه الدراسـات. ولكن حتى يتم ذلك لا بد من التفكير [ ص: 82 ] في الطريقة المثلى لهـذه الدراسـات، عبر استنفار المهتمين بهـذا الموضوع في سائر العالم الإسلامي لإنشاء المؤسسات والمعاهد ووحدات البحث، تصب جهودها في نقل الموضوع إلى مستوى (فقه) بعدما ظل ردحا من الزمن دعوات عامة غير قائمة على قواعد علمية راسخة، وعلى رأسها دراسة اللغات الغربية إلى درجة التخصص، بل الإمامة اللغوية. كما أننا بحاجة إلى من يتعمق في علم الاجتماع الغربي ليعرف مجتمعاتهم كأنه واحد منهم. ولم تعد هذه المسألة صعبة؛ فإن في الغرب اليوم كثيرا من المسلمين من أصول غربية يستطيعون تعرف بيئاتهم معرفة حقيقية، ولا يعوقهم شيء في التوصل إلى المعلومات التي يرغبون في الحصول عليها. ولا بد من تأكيد أن دراستنا الغرب يجب أن تستفيد من البلاد التي سبقتنا في هذا المجال، ومن ذلك أن عددا من البلاد الأوروبية قد أنشأت معاهد للدراسات الأمريكية، فهناك معهد الدراسات الأمريكية التابع لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن.

ودراستنا الغرب لا شك ستختلف عن دراسة الغرب لنا، فحين نريد دراسة الغرب ومؤسساته وهيئاته:

- فلأننا نحن في حاجة للأخذ بأسباب القوة المادية، التي وصلوا إليها، أليس في كتابنا الكريم ما يؤكد هذا: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) (الأنفال:60). [ ص: 83 ]

- ولأننا حين ندرس الغرب فليس لدينا تطلعات استعمارية، ولكننا نريد أن نحمي مصالحنا ونفهم طريقة حركة الغرب في أبعادها الفكرية والثقافية والاقتصادية والحضارية.

- ولأن هذه الأمة هي أمة الدعوة والشهادة؛ فكيف لنا أن نشهد على الناس دون أن نعرفهم المعرفة الحقيقية؟!

لذلك لن يكون فقه الاستغراب لتشويه صورة الغرب في نظر العالم، ولنا أسوة في ذلك بما ( ورد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في وصف الروم بقوله: إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة؛ وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة؛ وأوشكهم كرة بعد فرة؛ وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف؛ وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك ) [9] . [ ص: 84 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية