الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الثامن: التجربة التونسية والتوليف

بين المركزيتين الإسلامية والغربية

المبحث الأول: خير الدين التونسي والاستلهام الإسلامي للتنظيمات الأوروبية

تعتبر تونس أسبق أقطار المغرب العربي في إطلالة نخبتها على أوروبا، بالإضافة إلى اختراق الرأسمال الأوروبي لها بدعم سياسي ودبلوماسي حثيث، رشحها لكي تكون ثاني فريسة بعد الجزائر. وكان خير الدين التونسي (1810/1890) كجزء من الجهاز السياسي، وبالنظر إلى إقامته الطويلة في فرنسا وأوروبا عموما، يدرك أن ضعف إمكانات البلاد وشهية الاستعمار سيؤديان حتما إلى تتويج الاستتباع الاقتصادي والسياسي بالغزو العسكري.

وينقل في مقدمة كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» الذي طبع أول مرة بتونس سنة 1867م كلام أحد الأوروبيين، محذرا بذلك من يرفض رؤية الأمور على حقيقتها، يقول: «..إن الممالك التي لا تنسج على منوال مجاويرها فيما يستحدثونه من الآلات الحربية والتراتيب العسكرية توشك أن تكون غنيمة ولو بعد حين» وينقل أيضا أنه سمع...من بعض أعيان أوروبا أن التمدن الأورباوي تدفق مسيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة [ ص: 204 ] تياره، فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، إلا إذا حذوا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق.

ولا يعبر خير الدين عن نفسه فحسب، بل إنه كان ينطق باسم جل أفراد (النخبة الإصلاحية) الذين سمحت لهم مطالعاتهم من معرفة ما يرفض آخرون الإطلاع عليه، ومن بين هؤلاء الوزير المؤرخ أحمد بن أبي الضياف الذي كان من أقرب الناس إليه أخلاقا وعقلية. ويذكر ابن أبي الضياف أن الوزير مصطفى خزنه دار قال له ذات مرة: «أنت بتونس وخير الدين بفرنسا، قرأتما على معلم واحد، فقلت له: شيطاننا واحد» [1] .

لقد كان خير الدين التونسي أصدق ممثل لذلك التيار الذي قاده رفاعة الطهطاوي. لقد كان -مثل الطهطاوي- من دعاة الخروج بالبلاد من عزلة القرون الوسطى وكسر حاجز العزلة عن الحضارة الغربية الحديثة ونصيرا للتتلمذ على الحضارة الأوروبية فيما لا يتعارض مع أصول الشريعة الإسلامية وثوابت الدين الإسلامي وقيمه، وداعية للاجتهاد في الشريعة كي تواكب المصالح المتجددة للمسلمين [2] كما دعا في كتابه إلى إحياء هيئة (أهل الحل والعقد) الإسلامية، وفي مذكراته يزكي، صراحة، تكوين المجالس النيابية بالانتخاب العام، لأن هذه التنظيمات مما يحقق غاية الشريعة الإسلامية أو مقاصدها [3] .

[ ص: 205 ] وكما أن الباي أحمد باشا – حاكم تونس – كانت له محاولات للإصلاح يترسم فيها خطى محمد علي باشا حاكم مصر وما فعله مع الطهطاوي، فقد عهد إلى خير الدين بالإشراف على (مكتب العلوم الحربية) الذي أنشأه في فرنسا تحت رئاسة المستشرق الإيطالي «كاليفاريس». وكان هدف هذا المكتب تعليم الجنود التونسيين علوم الهندسة والمساحة والحساب، كما فعل الطهطاوي عندما ترجم مجموعة من المؤلفات وأسس مجموعة من المؤسسات لتعلم العلوم الأوروبية.

وعموما، يمكن حصر محاور المشروع الذي كان يدعو إليه خير الدين التونسي في:

- استلهام التنظيمات السياسية لتحقيق العمران المطلوب.

- الحرية السياسية باعتبارها أساس هذا العمران، بما في ذلك حرية نشر الأفكار التي يسميها التونسي (حرية المطبعة) .

- الحرية الاقتصادية، حيث ربطها بالحرية السياسية مثله في ذلك مثل الطهطاوي.

- التقدم في المعارف والعلوم باعتبارها ثمرة طبيعية لقيام الحرية السياسية والاقتصادية المستقرتين بواسطة التنظيمات الدستورية وإشاعة القانون.

ولقد نبه في مشروعه على خطر التتلمذ السلعي -الاستهلاكي-... لأننا إذا وقفنا عند الاستيراد السلعي ولم نتمثل الفكر والحضارة فسنظل سوقا استهلاكية غير صانعة منتجة، ومن ثم سنظل مربوطين بأسواق أوروبا [4] .

[ ص: 206 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية