الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل السابع: التجربة الجزائرية

بين أولوية السياسي وإغراء مركزية (الآخر)

الأمير عبد القادر: من خصم عنيد إلى دارس منتبه

المبحث الأول: الأمير عبد القادر

من (المركزية الإسلامية) إلى (الأخوة الإنسانية)

لقد كانت الجزائر من إيالات الخلافة العثمانية لمدة طويلة. وفي بدايات القرن التاسع عشر بدأت العلاقات بين الإيالة في الجزائر والمركز في تركيا تضعف لضعف المركز. فبعد مكاتبات عديدة للسلطان العثماني، وجه الأمير عبد القادر رسالة مطولة أواخر سنة 1841م إلى السلطان عبد الحميد يشرح له فيها الوضع الجزائري.وقال له معاتبا ومذكرا: «..ترانا نكرر المكاتيب إذا لم ندر ما وصل منها وما لم يصل إليك. فكم من كتاب كتبناه ولم يأتنا من حضرة سيدنا جواب.نسأل الله أن يكون المانع خيرا» [1] .

ولم يكن عجز الدولة العثمانية العامل الوحيد في تزايد الإحساس بالإحباط عند الجزائريين، بل إن موقف الدول المجاورة كان له نصيب في

[ ص: 196 ] ذلك. فبعد فترة الدعم للجزائر تحول السـلطان عبد الرحمن بن هشـام ملك المغرب الأقصى - وبضغط من فرنسا- إلى موقع العـداوة السافرة. أما حاكم تونس أحمد باي فإنه وبعد زيارة رسمية إلى فرنسا، وجه رسالة حادة اللهجـة لراعي المصـالح القنصلية التونسية بجبل طارق يقول فيها: «.. بلغنا أنك كتبت بصبرتات (جوازات سفر) لأناس من غير إيالتنا القائمين على دولة المعظم سـلطان الفرنسيين، وكذلك بلغنا أنك عندك خلطة مع عبد القادر بإعانته في بعض مهمـاته. فتغـيرنا من سماع ذلك لأن دولتنا مع دولة فرنسا في غاية المحبة والصفا، لا نعين القائم عليها بوجه. فالواجب أن تفعل ذلك». وهـذه الرسـالة مؤرخة في سبتمبر 1847م. ولم يكن موقف أحمد باي ناتجا عن سياسات مصلحية فحسب بل كذلك عن ميل للفرنسيين -كما سنرى لاحقا- وكان يتحدث عن (عدل الفرنسيين في الجزائر) [2] .

فما كان من الأمـير عبد القـادر والقوى المعادية لفرنسا (الغرب) التي كانت احتـلت الجزائر سنة 1830م، إلا الاعتمـاد على الذات في قيادة العمل الجهادي. وقد تمخضت سنوات نضاله الطويلة، ثم المقاومة اليائسة – بعدمـا تكالبت عليه فرنسـا والقبـائل المتحالفة معها من جانب، والجيش المغربي وقبائل الريف من جانب آخر- ثم الأسر عن تطور

[ ص: 197 ] أكيد في نظرة الأمير لأسباب ضعف المسلمين وقوة أعدائهم. فتحول من (المركزية الإسلامية) إلى (الأخوة الإنسانية) ، ومن أولوية المسألة السياسية إلى أهمية القضية الاجتماعية ببعديها الاقتصادي والعلمي. ويظهر هذا التحول من خلال رسائل الأمير. فقد عبر عن موقف المحافظة والرفض من خلال رسالة له إلى حاكم الجزائر آنذاك الجنرال ديمشيل بتاريخ 30 أكتوبر 1833م حيث قال فيها:

«.. وصلنا خطابكم المشتمل على دعوتنا إلى طاعتكم فأخذنا العجب، هل يعقل في الدنيا ذو عقل سليم يتصور هذا في فكره فضلا عن كونه يتلفظ به أو يكتبه؟ فكيف نترك ديننا الذي هو الدين القويم والصراط المستقيم، ونتبع دينكم الذي يجب علينا في شريعتنا أن نقاتلكم حتى نردكم عنه إلى ديننا؟ أما علمتم أن ديننا مبطل لسائر الأديان وشريعتنا ناسخة لكافة الشرائع؟ ولو أنصف علماؤكم لأقروا بهذا» [3] .

إن الجنرال الفرنسـي لم يعرض المسيحيـة على الأمير، لكن الشيخ عبد القادر لم يفرق بين الأمرين، فإلقاء السلاح كان يعني في ذهنه الردة. لكن الهزيمة وسنوات الأسر ومرارته وخذلان الأصحاب والجيران - بعد ذلك - كانت كفيلة بتعديل هذه النظرة. ورغم أنه لم يتنازل عن عقيدته أو عن قناعته بعدالة القضية التي من أجلها قاتل، فإنه لم يعد يقف من

[ ص: 198 ] (العدو/الآخر) موقف الرفض الجذري القائم على النظرة المركزية. وكانت أول إشارة لذلك التحول مطالبته بحق التصويت في استفتاء نوفمبر 1853م، الذي أصبح نابليون بمقتضاه إمبراطورا بعدما كان مجرد رئيس [4] .

وينقل شارلز هنري تشرشل في كتابه (حياة عبد القادر) الصادر في الجزائر سنة 1991م، وهو من إملاء عبد القادر الجزائري على المؤلف، أن الأمير خلال تجواله في باريز إثر رفع التضييق عنه سنة 1852م زار عدة تجهيزات عصرية، إلا أن المطبعة جلبت انتباهه، وبعد تأملها بعناية فائقة، هتف قائلا: «بالأمس شاهدنا مدافع الحرب واليوم شاهدنا مدافع الفكر». ونقل الأمير محمد بن عبد القادر الحادثة مع إضافة ذات دلالة، فبعد أن زار والده مصانع المدافع والذخائر قال في الغد إثر زيارته دار الطباعة: بالأمس رأينا صناعة المدافع التي تهدم القلاع والحصون، ... » [5] .

وقد تكررت مواقف الإعجاب نفسها والانبهار بأحدث الاختراعات خلال المعارض التي كان الأمير يحرص دائما عليها كلما زار أوروبا. فزار المعرض الدولي بباريس سنة 1865م، وتوقف أمام الآلات الضخمة طويلا: «..وبعد أن أبدى إعجابه بمختلف المعروضات قال بصوت عال: لا ريب أن هذا المكان هو هيكل العقل الذي شرف الله به الإنسان. ثم زار معرض

[ ص: 199 ] باريس سنة 1867 والمعرض الصناعي بـ (كريستال بالاس) بلندن في السنة نفسها مبديا نفس الحرص والانتباه والإعجاب، إلا أن كل هذا لم يكن صادرا عن شخص فضولي، بل عن زعيم طموح يعتبر أن الأمة الإسلامية لن تخرج من وضع المهزوم إلا بتبني الوسائل التي أوصلت الغرب إلى ما هو عليه» [6] ، وهكذا وصل الأمير إلى القناعة نفسها التي وصل إليها الطهطاوي قبله من منطلق تجربة أخرى عرضنا لها في مبحث سابق.

وقد استطاعت السياسة الفرنسية أن تطور آليات خطابها للنخبة والجماهير على حد سواء، حيث كانت تعتمد الدعاية لأفكارها وسياستها بآليات لم يعهـدها الجـزائريون من قبل، فهـذا المؤرخ الجزائري حمدان ابن عثمان خوجة يصـور أثر توزيع المناشـير المطمئنة للأهالي الجزائريين في صناع القرار من سكان العاصمة فيقول:

«اجتمع عدد من أعيان الجزائر في حصن البحرية ورأوا أن الجزائر خاضعـة لا ريب في ذلك. وكانوا يعتقـدون أن أمة شريفة (يقصد فرنسا) لا تنكث بعهودها، و (قالوا) إننا سنتمتع بحريتنا ونعامل بكل عدل، وبقطع النظر عن كون زيد أو عمرو هو الذي يحـكمنا، فإن المهـم أن نحـكم وفقا لمبادئ الحـكومة الفرنسية، وأن لا تمـس ديانتنا. والدين شيء روحي

[ ص: 200 ] لا تنافس فيه، وأن الرجال رجال ستجمع بيننا وبينهم الأخوة. ومن جهة أخرى، فإن عماد الحضـارة هي حقوق الإنسـان، لذلك فإننا لا نخشى من أمة متحضرة. وكان هذا هو التفكير الذي أدى في نهاية الأمر إلى عدم مقاومة الجيش الفرنسي.. وأرسل المجتمعون وفدا إلى القصبة لإخبار الباي الذي أرسل بدوره وفدا مع قنصل إنجلترا بالجزائر للتفاوض» [7] .

وحمدان خوجة هذا، كان معاصرا للاحتلال الفرنسي للجزائر، وكان أكثر الجزائريين ثروة وثقافة، سافر عدة مرات لأوروبا، ويعد عارفا بالحضارة الأوروبية وتطور الأفكار فيها. ويعتبره البعض عن حق (طهطاوي الجزائر) من ناحية اطلاعه وفهمه لما كان يجري في أوروبا، لكنه لم يتقلد مناصب تمكنه من التأثير في الحياة السياسية في الجزائر.

[ ص: 201 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية