الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثالث: التجربة الطهطاوية تدشن الخطوات الحقيقية الأولى نحو الغرب

كما قلت، فى البعثة الأولى عام 1826م أرسل محمد علي رفاعة الطهطاوي (1801-1873م) مع البعثة لكي يقوم على شؤون البعثة الدينية، ولكنه حين ذهب إلى باريس رأى مدى التقدم، الذي يعيشه الأوربيون في كافة المجالات، ومن هنا فقد أخذ على عاتقه البحث في الأسباب التي أسهمت في تقدم أوروبا، سواء كانت هذه الأسباب هي العلم والتقدم العلمي، أو سيادة أشكال الحكم، التي تقوم على الحرية والعدل، والتي بدورها تؤدي إلى تهيئة الأجواء للتقدم والرقي.

وفى ظل الجهود المتصلة والمتنامية للطهطاوي يمكن القول: إنه حمل إلينا ملامح شخصية فكرية مثلت إحدى الركائز الأساسية لنهضة العالم العربي والإسلامي في الجوانب الفكرية والثقافية، والواقع أن أي قراءة لجهود الطهطاوي الفكرية لا يمكن أن تتحقق إلا في ضوء المرتكزات الآتية:

1- أن القراءة الفكرية الواعية لجهود الطهطاوي لا يمكن أن تغفل سيادة القوالب اللغوية التقليدية في مؤلفاته، فهو حين ينقل إلينا مصطلحات الفكر السياسي الغربي يوظف في ذلك لغة السياسة الشرعية، فهو يرادف بين الشعب/الرعية، وبين القانون/الشريعة؛ وكثيرا ما نجد المصطلحات الفقهية التقليدية زاخرة في مؤلفاته مثل المباح/المحظور، الكفر/الإيمان، الهداية/الضلال، ولا شك أن هذه اللغة ترجع إلى التعليم الديني، الذي تعلمه الطهطاوي في الأزهر، وقد أدت سيادة هذه اللغة في خطاب الطهطاوي الفكري إلى تجميد [ ص: 170 ] الأفكار الليبرالية الحديثة، التي كان يسعى إلى نقلها داخل قوالب لغوية تقليدية، فاللغة ليست مجرد وعاء للفكر، بل اللغة هي الفكر، ولهذا فالطهطاوي لم يسع إلى تجديد اللغة التقليدية السائدة في خطابه الفكري، بل تعامل مع المكتسب الليبرالي بلغة الفقيه، وعالم الدين، وقد نلتمس له العذر لأنه كان يمثل أحد الرواد الذين شكلوا الجسر الذي عرفنا أوروبا من خلاله.

2- وقد ترتب على سيادة اللغة التقليدية في خطاب الطهطاوي الفكري أن طبع فكره بالطابع المعياري - الأخلاقي والديني - وهذا الطابع سائد إلى حد بعيد في معظم إنتاج الطهطاوي الفكري، فهو حين ينظر إلى الأفكار، والنظم المعرفية الغربية فإنه يحكم عليها من خلال الطابع المعياري، فحين يتحدث عن أمريكا قبل اكتشافها من قبل الأوروبيـين يقـول: «وأما أمريكا فهي بلاد الكفر»، وحين يتحدث عن العلم يقول: «ولهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية»، وحين يتحدث عن موقفهم من القضاء والقدر يقول: «ومن عقائدهم الشنيعة إنكار القضاء والقدر»؛ فالطهطاوي يتعامل مع الغرب من خلال علومه الدينية.

3- ويمكن إرجاع الطابع المعياري الديني عند الطهطاوي إلى سيطرة العقيدة الأشعرية على فكره، ولهذا وجدنا الطهطاوي ينكر على الفرنسيين استخدامهم للعقل واعتباره المعيار الأساس في كل شيء، فيقول: «إن الفرنساوية من الفرق التي تأخذ بالتحسين والتقبيح العقليين، وهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلا» ولا يعنى إقرار الطهطاوي لعقلانية الفرنسيين أنه يطالبنا بأن تكون هذه الميزة سائدة في مجتمعنا، ولكنه نظر إلى الوجه السيئ لهذه الميزة، واعتبرها وسيلة للإباحية والإلحاد، والتحرر من الدين فيقول: «إن أكثر أهل باريس إنما لهم من دين [ ص: 171 ] النصرانية الاسم فقط ولا غيرة لهم عليه، بل هم من الفرق المحسنة والمقبحة بالعقل، وأن هناك فرقا من الإباحيين الذين يقولون: إن كل عمل يأذن فيه العقل صواب» ومن الواضح أن الطهطاوي حين يكشف عن المثالب القليلة لفكرة الحسن والقبح العقليين- فإنه يواري الميزات الكبرى للفكرة، ودورها في تحرير العقل البشري من سيطرة رجال الدين، والتحرر من سلطة الفقه، وإتاحة الحرية للعقل البشري في ممارسة الخلق والإبداع، فقد كان تقدير العقل والعقلانية أولى الركائز الأساسية التي أسهمت في تقدم أوروبا، منذ أن أرسى دعائمها عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر. [1]

في هذا السياق جاءت تجربة رفاعة الطهطاوي، رائد التنوير في العصر الحديث [2] ، والذي سيكون من ثمرات عملية التحديث التي قام بها على المستوى الفكري حينما أرسله محمد علي على رأس بعثة علمية إلى باريس سنة 1826م.

وتجربة الطهطاوي غنية من نواح متعددة منها:

أنه أول مفكر في العصر الحديث زار الغرب وأعد عنه قراءة علمية عميقة تعد من أولى لبنات فهم الغرب أو (فقه الاستغراب) ، هذا من جهة، أما من جهـة ثانية فـلأن تجربته كان لهـا تأثير واسع على أعلام عصر النهضة فيما بعد -أكاد أقول- دون استثناء، ومن بينهم الشيخ علي عبد الرازق، الذي أرخ بكتابه: «الإسلام وأصول الحكم»، لأول نزاع بين الدين والسياسة على المستوى النظري التقعيدي. وذلك هو موضوع الفصل الموالي.

[ ص: 172 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية