الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

نحو فقه للاستغراب

الدكتور / محمد البنعيادي

المبحث الرابع: ملاحظات انتقادية على الكتاب

1- إنكار الطابع السياسي عن التجربة النبوية

ينكر علي عبد الرازق حينا أن تكون للتجربة التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم أية ملامح سياسية، ثم يعود فيقرر أنها أكثر من سياسية؟ وفي نصوص كثيرة يتصور أنه عندما ينفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم صفات الملك أنه قد نفى عن نظامه طابع السياسة والحكومة والدولة، وذلك دون أن يفرق بين السياسة والحكومة وبين النظام الملكي ... ونحن نعتقد أن تقييم المؤلف هذا للتجربة النبوية هو من أكثر نقاط هذا الكتاب ضعفا؛ لأن اتحاد السلطة السياسية بالسلطة الدينية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أمر يكاد أن يصل في البحث والبحوث إلى درجة البديهيات، وذلك لأسباب كثيرة من مقدمتها اتحاد ذات الإنسان الذي قاد هذه الوحدة وتلك التجربة بذات الإنسان الذي كان يتلقى الوحي عن السماء.

[1] 2- التناقض في تقييم التجربة الراشدية

وسببه عدم تبني المنهج الذي يرى الصلات بين الدين والدولة – بسبب تأثره بالعلمانية الغربية - دون أن تكون هذه الصلات هي التطابق، ويبصر العلاقة بين الحكم المدني الذي قرره الإسلام ودعا الناس لإقامته وتطويره مع مصالحهم ولكن بشرط الاتساق والانسجام مع الكليات والقيم والقوانين العامة التي جاء بها الإسلام... ذلك أن الفصل التعسفي بين مختلف الأبنية

[ ص: 189 ] الفكرية والمعنوية التي تؤطر المجتمع هو من سمات الفكر المثالي المناقض للفكر والمنهج العلمي.

3- استشهاد المؤلف بما لا يشهد له، ومن ذلك:

المحاولات الكثيرة التـي بذلهـا المؤلف كي ينفي عن طبيعة تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم صفات السياسة والدولة والحـكم، بانيا ذلك على أن مهمته إنما كانت الدعوة إلى الدين لا الحكم والسلطان والتنفيذ، وذلك بدليل أن القرآن قد نفى أن يكون الرسول (جبارا) أو (حفيظا) أو (وكيلا) أو (مسيطرا) باعتبارها أدلة تشهد بالصحة لحكمه هذا... والآيات الواردة في هذه الألفاظ لا تشهد أن النظام النبوي لم يكن سياسيا..

فنفي صفة الجبار -مثلا- في قوله تعالى:

( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) (ق:45) ،

إنما تعني أنك لست عليهم بمسلط تقسرهم على الإيمان... كما أن نفي صفة الجبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعني بحال من الأحوال أنه لم يكن حاكما ولم يقم دولة...وكأن كل سياسة تجبر في نظر الشيخ عبد الرازق.

كما أنه استشهد بما لا يشهد له من أحداث التاريخ، ومن الصياغات الفكرية والأقوال المأثورة الواردة في كتب المؤرخين.

4- إهمال الجانب المشرق في الفكر الإسلامي

إن القارئ لهذا الكتاب يأخذ صورة سلبية عن صورة الخليفة والإمام المسلم، ونحن نعتقد أن السبب في ذلك هو خلط المؤلف بين (الفكر) الإسلامي و (التاريخ) الإسلامي، وبين (النظرية) و (التطبيق) ... فحتى الذين [ ص: 190 ] كتبوا عن الإمامة والأحكام السلطانية في عصور (التغليب) واغتصاب السلطة دون شورى واختيار، ظلوا على تمسكهم بمبدأ الشورى والاختيار والبيعة والعقد للإمام، وهؤلاء الذين تحدثوا منهم في تبرير سلطة الحكام (المتغلبين) نظروا إليها كفترات عارضة استثنائية ...مخافة الفتنة... وخشية وقوع أضرار تفوق المكاسب المرجوة من وراء الثورة والخروج على هؤلاء الحكام [2] .

5- خلفيات التأثر بالغرب

بعد الحديث عن اختلاف المسلمين في مصدرية السلطة يقول : مثل هذا الخلاف بين المسلمين في مصدر سلطان الخليفة قد ظهر بين الأوروبيين، وكان له أثر فعلي كبير في تطور التاريخ الأوروبي، ويكاد المذهب الأول (الخليفة يستمد سـلطانه من سلطان الله وقوته من قوة الله) يكون موافقـا لما اشتهر به الفيلسوف «توماس هوبز» من أن سلطان الملوك مقدس وحقهم سماوي، وأما المذهب الثاني (الخليفة يستمد سلطانه من الأمة) فهو يشبه أن يكون نفس المذهب الذي اشتهر به الفيلسوف «جون لوك» [3] .

ثم يقول: وهناك آيات من القرآن كنا نحسب من الحق علينا أن نبين لك حقيقة معناها حتى لا يخيل إليك أنـها تتصـل بشيء من أمر الإمامة مثل قوله تعالى:

[ ص: 191 ] ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) (النساء:59) ،

( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء:83) ،

وغـاية ما قد يمكن إرهاق الآيتين به أن يقال إنهما تدلان على أن للمسلمين قوما منهم ترجع إليهم الأمور.. وذلك معنى أوسع كثيرا وأعم من تلك الخلافة بالمعنى الذي يذكرون، بل وذلك معنى يغاير الآخر ولا يكاد يتصل به. وإذا أردت مزيدا من هذا البحث فارجع إلى كتاب ) الخلافة) للعلامة السير «توماس أرنولد»، ففي الباب الثاني والثالث منه بيان ممتع ومقنع [4] .

إذن، فالخلفية الفكرية الغربية واضحة كل الوضوح في حديثه عن مصدر السلطات، فمرجعه هو التجربة السياسية التاريخية الأوروبية، لكن الأخطر أن يعتمد في تفسير النص القرآني، الذي يقارب المسألة، على رؤى المستشرقين مثل «توماس أرنولد» في كتابه «الخلافة».

مايهمنا نحن في هذا المقام، هو أن هذا الكتاب استطاع أن يحدث نقاشا فكريا وسياسيا واسعا أبرز إلى السطح- وبنوع من الحدة – موضوع استدعاء التجربة الغربية بمفرداتها السياسية والأيديولوجية إلى البلاد الإسلامية، كما كان من أوائل من طرح إعادة النقاش حول العلاقة بين الدين والسياسة (متأثرا بالغرب) ، وظهور الشكل «الإسلامي» للعلمانية الغربية في بلاد الإسلام.

[ ص: 192 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية