الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثالث: في معالم البنية الفلسفية والثقافية الغربية

إن عملية النقد ليست دائما سلبية، الهدف منها هو الفضح والتعرية الشامتة، فهذا أمر جدير بالعدميين، وإنما هي أساسا عملية تهدف إلى الفهم المعمق الذي يجعل من الممكن فرز محتويات الترسـانة المعرفية الغربية وعزل ما هو خاص (غربي) عما يصلح لأن يكون عاما (عالميا). فما هو عالمي يعبر عن إنسانية مشتركة، وبالتالي لن يكون من الصعب تبنيه وفق شروط نسقنا المرجعي والنظري النابع من أسئلة واقعنا وقضاياه، ولابد أن يكون التخلص من الإحساس بمركزية الغرب ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن الحضارة الغربية، وتوضيح أن كثيرا من (القوانين العلمية) هي نتيجة تصور تاريخي وحضاري محدد وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة.

فإذا كان الغرب قد تحول إلى مطلق- عند البعض- فإنه أصبح من الواجب أن يستعيد نسبيته وتاريخيته وزمنيته، وإذا ظل يشغل المركز، فإنه يجب أن يصبح مرة أخرى عنصرا واحدا ضمن عناصر الاختلاف الأخرى التي تكون عالم الإنسان. وإذا كان يعتبر نفسه عالميا وعاما فلابد أن نبين خصوصيته ومحليته، أي إن الغرب يجب أن يصبح غربيا مرة أخرى لا عالميا لنسبيته ونسبية أسسه غير المعصومة [1] . [ ص: 95 ]

إذا رصدنا الترسانة المعرفية والفلسفية الغربية، نلاحظ بسهولة ويسر أن المنظومة الغربية في بعدها المعرفي تبدأ بإعلان أن مركز الكون كامن فيه وليس مجاوزا له، وهذا يعني أن (الإله) إما غير موجود أساسا، أو أنه موجود ولا علاقة له بالمنظومات المعرفية والأخلاقية والدلالية والجمالية.

فالعالم يوجد داخله ما يكفي لتفسيره، والمنظومات الدلالية والمعرفية والأخلاقية والجمالية يتم تأسيسها وتطويرها بالعودة إلى هذا العالم وهذا الزمان وحسب، أي إن ثنائية الخالق والمخلوق تصفى تماما [2] أي إن المنظومة المعرفية المادية الحديثة بدأت بإعلان (موت الإله) باسم مركزية الإنسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة والأشياء والحقيقة المادية، وهذه هي الواحدية المادية: أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تماما لنفس القانون المادي الصارم، وأن يسود منطق الأشياء على الأشياء وعلى الإنسان، وهذا هو حجر الزاوية في المشروع المعرفي الغربي: ثمة قانون واحد وثقافة واحدة وإنسانية واحدة (تكتسب وحدتها من كونـها جزءا من النظام الطبيعي)، ولذا فإن ثمة نموذجا واحدا للتطور.

وانطلاقا من هذا كله تم طرح رؤية معرفية ورؤية أخلاقية، وتم تحديد الأولويات. ويلاحظ أن حركة البناء الفكري المادي تتجه نحو تصفية الثنائيات، التي نجمت عن الثنائية الدينية (الخالق/المخلوق) وعن الثنائية [ ص: 96 ] الهيومانية (الإنسان/الطبيعة) [3] ، وهذه التصفية تهدف إلى محاولة تنميط العالم في بعده الثقافي والمعرفي ومركزته حول المشروع الغربي الذي أصبح يكتسب قوة حركة مرعبة تلغي حتى الاختلافات بين الأنواع [4] .

وإذا تفحصنا الحضارة الغربية وجدنا جذورها تمتد إلى:

1- العناصر الرومانية القائمة على عبادة القوة والجنس، واليونانية القائمة على إبعاد الخطاب الإلهي وإحلال خطاب العقل الإنساني مكانه.

2- المسيحية القائمة على أساس ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ومؤسساتها اللاهوتية المتعصبة التي تحولت إلى العنصرية المغلقة من أجل البقاء والسيطرة والتمكين والانتشار.

3- حركة الإلحاد المادي، التي نتجت من خلال صراع الكنيسة مع التحولات الاجتماعية المعاصرة والتي أنتجت مناهج العلوم الإنسانية الحديثة.

والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو سر التحالف الصليبي اليهودي، الذي يطبع هذه الأصول، وهل هو زلة حضارية، أم نهج أصيل ثابت؟ [ ص: 97 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية