الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروينا من طريق السجستاني ، حدثنا ابن السرح ، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال; ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال.

قال أبو عمر: هذا هو الصحيح في أرض خيبر، أنها كانت عنوة كلها، مغلوبا عليها، بخلاف فدك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم جميع أرضها على الغانمين لها، الموجفين عليها بالخيل والركاب، وهم أهل الحديبية. ولم يختلف العلماء أن أرض خيبر مقسومة، وإنما اختلفوا هل تقسم الأرض إذا غنمت البلاد أو توقف؟ فقال الكوفيون: الإمام مخير بين قسمتها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض خيبر، وبين إيقافها كما فعل عمر بسواد العراق.

وقال الشافعي: تقسم الأرض كلها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر; لأن الأرض غنيمة كسائر أموال الكفار. وذهب مالك إلى إيقافها اتباعا لعمر، لأن الأرض مخصوصة من سائر الغنيمة، بما فعل عمر في جماعة من الصحابة في إيقافها لمن يأتي بعده من المسلمين. وروى مالك: ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه، قال: سمعت عمر يقول: لولا أن يترك آخر الناس لا شيء لهم ما افتتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانا، كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر سهمانا. وهذا يدل على أن أرض خيبر قسمت كلها سهمانا، كما قال ابن إسحاق، وأما من قال: خيبر كان بعضها صلحا وبعضها عنوة، فقد وهم وغلط، وإنما دخلت عليه الشبهة بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما في حقن دمائهم، فلما لم يكن أهل ذينك الحصنين من الرجال والنساء والذرية [ ص: 189 ] مغنومين، ظن أن ذلك صلح، ولعمري إنه في الرجال والنساء والذرية لضرب من الصلح، ولكنهم لم يتركوا أرضهم إلا بالحصار والقتال، فكان حكم أرضهما كحكم سائر أرض خيبر، كلها عنوة، غنيمة مقسومة بين أهلها. وربما شبه على من قال: إن نصف خيبر صلح ونصفها عنوة، بحديث يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم خيبر نصفين، نصفا له ونصفا للمسلمين. فقال أبو عمر: وهذا لو صح لكان معناه أن النصف له مع سائر من وقع في ذلك النصف معه، لأنها قسمت على ستة وثلاثين سهما، فوقع سهم النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة معه في ثمانية عشر سهما، ووقع سائر الناس في باقيها، وكلهم ممن شهد الحديبية ثم خيبر. وليست الحصون التي أسلمها أهلها بعد الحصار والقتال صلحا، ولو كانت صلحا لملكها أهلها كما يملك أهل الصلح أرضهم وسائر أموالهم، فالحق في هذا ما قاله ابن إسحاق دون ما قاله موسى بن عقبة وغيره عن ابن شهاب. انتهى ما ذكره أبو عمر.

فأما قوله: قسم جميع أرضها، فإن الحصنين المفتتحين أخيرا، وهما الوطيح والسلالم، لم يجر لهما ذكر في القسمة، وسيأتي بيان ذلك عند ذكر القسمة. وأما تأويله لحديث بشير بن يسار، فقد كان ذلك التفسير ممكنا لو كان في الحديث إجمال يقبل التفسير بذلك، ولكنه ليس كذلك، وسيأتي في الكلام على القسمة. وأما قوله: كلهم ممن شهد الحديبية ثم شهد خيبر. فالمعروف أن غنائم خيبر كانت لأهل الحديبية، ممن حضر الوقعة بخيبر ومن لم يحضرها وهو جابر بن عبد الله الأنصاري، ذكره ابن إسحاق. وذلك لأن الله أعطاهم ذلك في سفر الحديبية. وعن الحكم ، عن أبي ليلى، في قوله تعالى: ( وأثابهم فتحا قريبا ) قال: خيبر. ( وأخرى لم تقدروا عليها ) : فارس والروم، وإن أهل السفينتين لم يشهدوا الحديبية ولا خيبر، وكانوا ممن قسم له من غنائم خيبر، وكذلك الدوسيون، وكذلك الأشعريون، قدموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يشركوهم في الغنيمة، ففعلوا.

وذهب آخرون إلى أن بعضها فتح صلحا والبعض عنوة، كما ذكرناه عن موسى بن عقبة. وكما رويناه عن مالك ، عن الزهري، من طريق أبي داود، قال: قرئ على الحارث بن [ ص: 190 ] مسكين وأنا شاهد، أخبركم ابن وهب، قال: حدثني مالك ، عن ابن شهاب: أن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحا، والكتيبة أكثرها عنوة، وفيها صلح. قلت لمالك: وما الكتيبة؟ قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق، ورويناه عن سعيد بن المسيب أيضا. قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، حدثنا عبد الله بن محمد ، عن جويرية ، عن مالك ، عن الزهري، أن سعيد بن المسيب أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح بعض خيبر عنوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية