الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروينا عن عثمان بن طلحة، من طريق ابن سعد، قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلظت عليه ونلت منه، وحلم عني، ثم قال: يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت. فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت. فقال: بل عمرت وعزت يومئذ. ودخل الكعبة، فوقعت كلمته مني موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال. [ ص: 241 ] وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال له يوم الفتح: يا عثمان أن ائتني بالمفتاح فأتيته به، فأخذه مني، ثم دفعه إلي، وقال: خذوها تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنك على بيته، فكلوا ما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف.

قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت. فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله.


وروينا عن سعيد بن المسيب أن العباس تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان.

ودخل النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يومئذ الكعبة ومعه بلال فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب ، وعتاب بن أسيد ، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء. فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: لقد علمت الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث ، وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.

وروينا عن ابن إسحاق من طريق زياد البكائي، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الخزاعي، قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير جئته، فقلت له: يا هذا إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا، فقال: يا أيها الناس إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، ولا يعضد بها شجرا. الحديث. وفيه: فقال عمرو ، لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ فنحن أعلم بحرمتها منكم، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية.. الحديث.

[ ص: 242 ] قلت: الذي وقع في الصحيح أن هذا الخبر لعمرو بن سعيد بن العاص مع أبي شريح لا لعمرو بن الزبير وهو الصواب. والوهم فيه عن من دون ابن إسحاق. وقد رواه يونس بن بكير عنه على الصواب.

وحين افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف على الصفا يدعو وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا فيما بينهم: أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه، قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله. فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم. ذكره ابن هشام، وذكر أن فضالة بن عمير بن الملوح أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضالة؟ قال: نعم، فضالة يا رسول الله. قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث. فقلت: لا، وانبعث فضالة يقول:


قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام     لو ما رأيت محمدا وقبيله
بالفتح يوم تكسر الأصنام     لرأيت دين الله أضحى بينا
والشرك يغشى وجهه الإظلام

وفر يومئذ صفوان بن أمية فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمنه وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر، فرده، فقال: يا رسول الله اجعلني بالخيار شهرين. فقال: أنت بالخيار أربعة أشهر.

وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل، فأسلمت واستأمنت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمنه، فلحقته باليمن، فردته، وأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصفوان على نكاحهما الأول.

[ ص: 243 ] قال ابن سعد: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم، وحانت الظهر فأذن بلال فوق ظهر الكعبة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغزى قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة - يعني على الكفر - ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحزورة، فقال: إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت. وبث رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا إلى الأصنام التي حول مكة فكسرها، منها العزى ومناة وسواع وبوانة وذو الكفين، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره. [ ص: 244 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية