الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر كتاب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إلى قيصر وما كان من خبر دحية معه

ذكر الواقدي من حديث ابن عباس ، ومن حديثه خرج في الصحيحين ، أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام ، وبعث بكتابه مع دحية الكلبي ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر ، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر ، وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله ، عز وجل ، فيما أبلاه من ذلك ، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال : التمسوا لي هاهنا من قومه أحدا نسألهم عنه .

قال ابن عباس : فأخبرني أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام في رجال من قريش قدموا تجارا ، وذلك في الهدنة التي كانت بين رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وبين كفار قريش ، قال : فأتانا رسول قيصر ، فانطلق بنا حتى قدمنا إيلياء ، فأدخلنا عليه ، فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه [ ص: 345 ] التاج ، وحوله عظماء الروم ، فقال لترجمانه : سلهم أيهم أقرب نسبا بهذا الذي يزعم أنه نبي ؟ قال أبو سفيان : فقلت : أنا أقربهم نسبا ، وليس في الركب يومئذ رجل من بني عبد مناف غيري . قال قيصر : أدنوه مني ، ثم أمر بأصحابي فجعلوا خلف ظهري ، ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه : إنما قدمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، وإنما جعلتكم خلف كتفيه لتردوا عليه كذبا إن قاله . قال أبو سفيان : فوالله لولا الحياء يومئذ أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه ، ولكني استحييت فصدقت وأنا كاره . ثم قال لترجمانه : قل له : كيف نسب هذا الرجل فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو نسب . قال : قل له : هل قال هذا القول أحد منكم قبله ؟ قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا . قال : هل كان من آبائه ملك ؟ قلت : لا . قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم . قال : فهل يزيدون أو ينقصون ؟ قلت : بل يزيدون . قال : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت : لا . قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا ، ونحن الآن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم . قال : فكيف حربكم وحربه ؟ قلت : دول وسجال ، ندال عليه مرة ويدال عليه أخرى . قال : فما يأمركم به ؟ قلت : يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة .

فقال لترجمانه : قل له : إني سألتك عن نسبه ، فزعمت أنه فيكم ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها ، وسألتك : هل قال هذا القول منكم أحد قبله ، فزعمت أن لا ، فلو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت : رجل يأتم بقول قيل قبله ، وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ، وسألتك : هل كان من آبائه ملك ؟ قلت : لا ، فقلت : لو كان من آبائه ملك قلت : رجل يطلب ملك أبيه ، وسألتك : أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقلت : ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل . وسألتك : هل يزيدون أو ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك : هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد ، وسألتك : هل قاتلتموه ؟ فقلت : نعم ، وأن حربكم وحربه دول وسجال ، يدال عليكم مرة [ ص: 346 ] وتدالون عليه أخرى ، وكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لهم العاقبة ، وسألتك : ماذا يأمركم به ؟ فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ، وهو نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولكن لم أظن أنه فيكم ، وإن كان ما أتاني عنه حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقيه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه .

قال أبو سفيان : ثم دعا بكتاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقرئ ، فإذا فيه : "بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين ، و ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) " .

قال أبو سفيان : فلما قضى مقالته وفرغ من الكتاب ، علت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم ، فلا أدري ما قالوا ، وأمر بنا فأخرجنا ، فلما خرجت أنا وأصحابي وخلصنا ، قلت لهم : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة هذا ملك بني الأصفر يخافه . قال : فوالله ما زلت ذليلا مستيقنا أن أمره سيظهر ، حتى أدخل الله علي الإسلام .
/ 50 ويروى في خبر أبي سفيان أنه قال لقيصر لما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم : أيها الملك ، ألا أخبرك عنه خبرا تعرف به أنه قد كذب ؟ قال : وما هو ؟ قلت : إنه قد زعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة ، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ، ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح ، [ ص: 347 ] قال : وبطريق إيلياء عند رأس قيصر ، فقال : صدق أيها الملك ، قال : وما علمك بهذا ؟ قال : إني كنت لا أنام كل ليلة حتى أغلق أبواب المسجد ، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني ، فاستعنت عليه عمالي ومن يحضرني فلم نستطع أن نحركه ، فكأنما نزاول جبلا ، فدعوت النجارين فنظروا إليه ، فقالوا : هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان ، فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتي ، فرجعت وتركت البابين مفتوحين ، فلما أصبح غدوت عليهما ، فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد منقوب ، وإذا فيه أثر مربط الدابة ، فقلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي ، وقد صلى الليلة في مسجدنا هذا . فقال قيصر لقومه : يا معشر الروم ، ألستم تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة نبيا بشركم به عيسى ابن مريم ، ترجون أن يجعله الله فيكم ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن الله قد جعله في غيركم ، في أقل منكم عددا ، وأضيق منكم بلدا ، وهي رحمة الله ، عز وجل ، يضعها حيث يشاء .

اليريسيون : دهاقين القرى ، وكانوا إذ ذاك مجوسا .

التالي السابق


الخدمات العلمية