الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروينا عن الشافعي : حدثنا الحسين بن عبد الله القطان بالرقة ، حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبو عبد الصمد العمي ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، قال : قال لي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "إذا طبخت فأكثر المرق ، واقسم في أهلك وجيرانك" . رواه مسلم ، عن أبي كامل ، وإسحاق بن إبراهيم ، عن عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن أبي عمران به .

وكان ، صلى الله عليه وسلم ، أشجع الناس ، سئل البراء : أفررتم يوم حنين ؟ قال : لكن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لم يفر . وفيه : فما رئي يومئذ أحد كان أشد منه .

وقال ابن عمر : ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود ولا أرضى من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . [ ص: 436 ]

وعن أنس : كان النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أحسن الناس ، وأجود الناس ، وأشجع الناس ، لقد فزع أهل المدينة ليلة ، فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، راجعا قد سبقهم إلى الصوت ، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة ، عري ، والسيف في عنقه ، وهو يقول : "لن تراعوا" .

وقال عمران بن حصين : ما لقي النبي ، صلى الله عليه وسلم ، كتيبة إلا كان أول من يضرب .

وقال علي بن أبي طالب : كنا إذا حمي - أو اشتد - البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا .

وقيل : كان الشجاع هو الذي يقرب منه ، صلى الله عليه وسلم ، لقربه من العدو .

وكان ، صلى الله عليه وسلم ، أشد الناس حياء ، وأكثرهم عن العورات إغضاء ، قال الله تعالى : ( إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ) . وعن أبي سعيد الخدري ، كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أشد حياء من العذراء في خدرها ، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه . . . الحديث .

وعن عائشة : كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل : ما بال فلان يقول كذا ؟ ولكن يقول : "ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا ؟" . ينهى عنه ولا يسمي فاعله . [ ص: 437 ]

وعن أنس في حديث ، أنه ، عليه الصلاة والسلام ، كان لا يواجه أحدا بما يكره .

وعن عائشة : لم يكن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فاحشا ولا متفحشا ، ولا سخابا بالأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح .

وعنها : ما رأيت فرج رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قط .

وروي عنه أنه كان في حيائه لا يثبت بصره في وجه أحد ، وأنه كان يكني عن ما اضطره الكلام إليه مما يكره .

* وكان ، صلى الله عليه وسلم ، أوسع الناس صدرا ، وأصدق الناس لهجة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، هذا من كلام علي في صفته .

وعن قيس بن سعد ، قال : زارنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فلما أراد الانصراف ، قرب له سعد حمارا وطأ عليه بقطيفة ، فركب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ثم قال سعد : يا قيس ، اصحب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . قال قيس : فقال لي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "اركب" . فأبيت ، فقال : "إما أن تركب وإما أن تنصرف" . فانصرفت . وفي رواية : "اركب أمامي ، فصاحب الدابة أحق بمقدمها" .

وعن عائشة في حديث عنه ، صلى الله عليه وسلم ، أنه ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال : "لبيك" . [ ص: 438 ]

وقال جرير : ما حجبني رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم .

* وكان ، صلى الله عليه وسلم ، يمازح أصحابه ، ويخالطهم ، ويحادثهم ، ويداعب صبيانهم ، ويجلسهم في حجره ، ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين ، ويعود المرضى في أقصى المدينة ، ويقبل عذر المعتذر .

قال أنس : ما التقم أحد أذن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فينحي رأسه ، حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه ، وما أخذ آخذ بيده فيرسل يده ، حتى يرسلها الآخذ . ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له .

* وكان يبدأ من لقيه بالسلام ، ويبدأ أصحابه بالمصافحة ، لم ير قط مادا رجليه بين أصحابه ، حتى لا يضيق بهما على أحد ، يكرم من يدخل عليه ، وربما بسط له ثوبه ، ويؤثره بالوسادة التي تحته ، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى ، ويكني أصحابه ، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم ، ولا يقطع على أحد حديثه .

وروي أنه كان لا يجلس إليه أحد ، وهو يصلي إلا خفف صلاته ، وسأله عن حاجته ، فإذا فرغ عاد إلى صلاته .

* وكان أكثر الناس تبسما ، وأطيبهم نفسا ، ما لم ينزل عليه قرآن ، أو يعظ ، أو يخطب ، قال عبد الله بن الحارث : ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

* وأما شفقته ، صلى الله عليه وسلم ، على خلق الله ورأفته بهم ، ورحمته لهم ، فقد قال الله تعالى فيه : ( عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ، وقال : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) . قال بعضهم : من فضله ، عليه الصلاة والسلام ، أن الله أعطاه اسمين من أسمائه ، فقال : ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) . [ ص: 439 ]

ومن ذلك : تخفيفه وتسهيله عليهم ، وكراهته أشياء مخافة أن تفرض عليهم ، كقوله : "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء" ، وخبر صلاة الليل ، ونهيهم عن الوصال ، وكراهية دخول الكعبة لئلا يعنت أمته ، ورغبته لربه أن يجعل سبه ، ولعنه لهم رحمة ، وأنه كان يسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته ، ولما كذبه قومه أتاه جبريل ، عليه السلام ، فقال : إن الله ، تعالى ، قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداه ملك الجبال وسلم عليه ، وقال : مرني بما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا" .

وروى ابن المنكدر ، أن جبريل ، عليه السلام ، قال للنبي ، صلى الله عليه وسلم : إن الله أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك ، فقال : "أؤخر عن أمتي ، لعل الله أن يتوب عليهم" .

قالت عائشة : ما خير رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بين أمرين إلا اختار أيسرهما .

وقال ابن مسعود : كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا .

وروي أنه ، عليه الصلاة والسلام ، قال : "لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" . [ ص: 440 ]

وكان ، صلى الله عليه وسلم ، أوصل الناس للرحم ، وأقومهم بالوفاء وحسن العهد .

روينا من طريق أبي داود ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن بديل ، عن عبد الكريم ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبيه ، عن عبد الله بن أبي الحمساء ، قال : بايعت النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ببيع قبل أن يبعث ، وبقيت له بقية ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ، ثم نسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاث ، فجئته فإذا هو في مكانه ، فقال : "يا فتى ، لقد شققت علي ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك" .

وعن أنس : كان النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إذا أتي بهدية ، قال : "اذهبوا بها إلى بيت فلانة ، فإنها كانت صديقة لخديجة ، إنها كانت تحب خديجة" ، ودخلت عليه امرأة فهش لها ، وأحسن السؤال عنها ، فلما خرجت ، قال : "إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان" .

وقال عليه الصلاة والسلام : "إن آل أبي فلان ، ليسوا لي بأولياء ، غير أن لهم رحما سأبلها ببلالها" .

وعن أبي قتادة : وفد وفد للنجاشي ، فقام النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يخدمهم ، فقال له أصحابه : نكفيك . فقال : "إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين ، وإني أحب أن أكافئهم" .

ولما جيء بأخته من الرضاعة الشيماء في سبي هوازن ، بسط لها رداءه ، وخيرها بين المقام عنده والتوجه إلى أهلها ، فاختارت قومها ، فمتعها .

وكان ، صلى الله عليه وسلم ، أشد الناس تواضعا على علو منصبه ، فمن ذلك أن الله خيره بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا ، فاختار أن يكون نبيا عبدا ، فقال له إسرافيل عند ذلك : فإن [ ص: 441 ] الله قد أعطاك بما تواضعت له ، أنك سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع .

وخرج على قوم من أصحابه فقاموا له ، فقال : "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا ، وقال : "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد" . وكان يركب الحمار ، ويردف خلفه ، ويعود المساكين ، ويجالس الفقراء ، ويجيب دعوة العبد ، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم ، حيث ما انتهى به المجلس جلس ، وقال لامرأة أتته في حاجة : "اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك" ، فجلست وجلس . وكان يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب ، وحج على رحل رث عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم ، وأهدى في حجه ذلك مائة بدنة ، وكان يبدأ من لقيه بالسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية