الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قدوم عدي بن حاتم الطائي

قال ابن إسحاق : وكان يقول - فيما بلغني - : ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، حين سمع به مني . أما أنا فكنت امرأ شريفا ، وكنت نصرانيا ، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، فكنت في نفسي على دين ، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي ، فلما سمعت برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، كرهته ، فقلت لغلام كان لي عربي ، وكان راعيا لإبلي : لا أبا لك ، اعزل لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا ، فاحبسها قريبا مني ، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني ، ففعل ، ثم إنه أتاني ذات غداة فقال : يا عدي ، ما كنت صانعا إذا غشيك محمد فاصنعه الآن ، فإني قد رأيت رايات ، فسألت عنها ، فقالوا : هذه جيوش محمد . قال : فقلت : فقرب لي أجمالي ، فقربها ، فاحتملت بأهلي وولدي ، قلت : [ ص: 319 ] ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام ، وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر ، فلما قدمت الشام أقمت بها .

وتخالفني خيل لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في سبايا من طيء ، وقد بلغ رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، هربي إلى الشام ، فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد ، كانت السبايا تحبس فيها ، فمر بها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقامت إليه ، وكانت امرأة جزلة ، فقالت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علي من الله عليك . قال : "من وافدك ؟" قالت : عدي بن حاتم . فقال : "الفار من الله ورسوله ؟" . ثم مضى وتركني ، حتى إذا كان من الغد مر بي ، فقلت له مثل ذلك ، وقال لي مثل ما قال بالأمس . حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست ، فأشار إلي رجل من خلفه ، أن قومي فكلميه . قالت : فقمت إليه فقلت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علي من الله عليك ، فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "قد فعلت ، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة ، حتى يبلغك إلى بلادك ، ثم آذنيني" . فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن كلميه ، فقيل : هو علي بن أبي طالب ، فأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة ، قالت : وإنما أريد أن آتي أخي بالشام . قالت : فجئت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ ، قالت : فكساني رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وحملني ، وأعطاني نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام .

قال عدي : فوالله إني لقاعد في أهلي ، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلي ، تؤمنا . قال : فقلت : ابنة حاتم ؟ قال : فإذا هي هي ، فلما وقفت علي انسجلت تقول : القاطع الظالم ، احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والديك ، عورتك . قال : قلت : أي أخية ، لا تقولي إلا خيرا ، فوالله ما لي من عذر ، لقد صنعت ما ذكرت . قال : ثم نزلت فأقامت عندي ، فقلت لها - وكانت امرأة حازمة - : ماذا ترين في أمر هذا الرجل ؟ قالت : أرى والله [ ص: 320 ] أن تلحق به سريعا ، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضل ، وإن يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت . قال : قلت : والله إن هذا للرأي .

قال : فخرجت حتى أقدم على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، المدينة ، فدخلت عليه ، فقال : "من الرجل ؟" فقلت : عدي بن حاتم ، فقام رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها ، قال : قلت في نفسي : والله ما هذا بملك . قال : ثم مضى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا دخل بيته ، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا ، فقذفها إلي ، فقال : "اجلس على هذه" . قال : فقلت : بل أنت فاجلس عليها . قال : "بل أنت" ، فجلست عليها ، وجلس رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بالأرض . قال : فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك ، ثم قال : "إيه يا عدي بن حاتم ! ألم تك ركوسيا ؟" قال : قلت : بلى . قال : "أولم تكن تسير في قومك بالمرباع ؟" قال : قلت : بلى ، قال : "فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك" . قال : قلت : أجل والله . قال : وعرفت أنه نبي مرسل ، يعلم ما يجهل . ثم قال : "لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه . ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم ، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف . ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم ، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم" . قال : فأسلمت .

قال : فكان عدي يقول : مضت اثنتان ، وبقيت الثالثة ، والله لتكونن ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها ولا تخاف حتى تحج هذا البيت ، وايم الله لتكونن الثالثة ، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه .


الركوسية : قوم لهم دين . [ ص: 321 ]

قوله : وغاب الوافد : بالواو ، وقال بعض الناس : لا معنى له إلا على وجه بعيد . قال : ووجدت الرقام ذكره في كتابه : الرافد ، بالراء ، وهو أشبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية