الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
درجات ولاية غير المؤمنين

والذين لا يكون لهم مكان في ولاية المؤمنين، تكون ولايتهم في الطرف المقابل من الولاية الفاسدة، القائمة على نصرة الباطل، والدعوة إليه، والالتفاف حوله، وهذه الولاية الفاسدة درجتان:

الدرجة الأولى: ولاية الشياطين للكافرين والمنافقين والعصاة، أي يتولونهم بالإضلال والإفساد والاصطدام مع أوامر الله وسننه في الحياة، وإلى هـذه الدرجة كانت الإشارة بأمثال قوله تعالى: ( فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ) [النحل:63]، ( إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) [الأعراف:27].

وتحسن الإشارة هـنا إلى الاستعمالات الخاطئة المضللة لمصطلح الشيطان، بحيث لم يعد بمقدور المسلم العادي أن يتخذ موقفا واقعيا محسوسا من الشياطين وأضاليلهم، وصار محرجا للمسلم المثقف أن يتطرق لمناقشة عمل الشياطين وآثاره، لما يرى في ذك من إمكانية الوقوع في شرك الخرافة، أو الاتهام بالتفكير الخرافي. [ ص: 106 ]

فالقرآن والحدث يطلقان مصطلح الشيطان ليدل على المنشطن: أي المنحرف الضال  عن قصد وإصرار [1] . والشيطان في القرآن والحديث قسمان.. الأول: هـو الشيطان الجني الذي لا يرى ولا يسمع من البشر العاديين. والقرآن يذكر هـذا النوع في معرض تعريفه بعناصر الوجود المحيط وتفاعل الإنسان معها، ويخبر أن هـذا الشيطان الجني ضعيف الكيد والتدبير.

والنوع الثاني: هـو الشيطان الإنسان الذي ينشطن - أي ينحرف عن قصد وإصرار - عن منهج الله، ويتبنى منهاجا مضادا في الفكر والسلوك، ويجعل من الانحراف والضلال فكرا صائبا، وعملا صالحا، وإنجازا حضاريا متقدما، ثم يكرس حياته وجهوده للدعوة إلى هـذا الانحراف والضلال وإشاعتهما؛ ففي معنى قوله تعالى: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) [الأنعام:121]. يذكر الطبري في تفسيره أن الشياطين - المشار إليهم في هـذه الآية - هـم شياطين فارس من المجوس، وأن أولياءهم هـم المتردون من مشركي قريش. فقد أرسلت فارس إلى أوليائها من قريش أن جادلوا محمدا وأصحابه، حول أكل الميتة، وكانوا يسمونها قتل الله. فقالوا: ما قتل الله لا تأكلونه، وما قتلتم تأكلون " . وفي رواية: قال المشركون للرسول  صلى الله عليه وسلم: " أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: " الله قتلها " . قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) [الأنعام:121] " . وفي وراية أخرى قالوا: " أما قتل الصقر والكلب فتأكلونه، وأما قتل الله فلا تأكلونه؟ فوقع في نفوس بعض المسلمين شيء؛ فأنزل الله الآية ونزلت أيضا: ( شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) [الأنعام:112] [2] ورواية الطبري عن مناسبة الآية تبين بوضوح أن ظاهرة شياطين الفكر من المستعمرين الذين يثيرون الشبهات حول الإسلام، وظاهرة أوليائهم من العرب - أو العملاء حسب لغة العصر الحديث - الذين يشيعون هـذه الشبهات، هـي ظاهرة قديمة/حديثة، فالعرب كانوا ومازالوا يتلقون القضايا الفكرية من شياطين الخارج؛ ففي الماضي كانوا يتلقون المعتقدات والشبهات من فارس والروم، واليوم يتلقونها من الغرب والشرق، ولا عاصم لهم إلا الإسلام.

والحديث النبوي يركز على التحذير من شياطين الإنس، من ذلك قوله  صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر هـل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت: يا رسول [ ص: 107 ] الله وهل للأنس من شياطين؟ قال: نعم، شر من شياطين الجن " [3] وبهذا التصور الذي يقدمه القرآن والحديث يكون هـناك شيطان الفكر، وشيطان التربية، وشيطان الثقافة، وشيطان الآداب، وشيطان الفنون، وشيطان الإعلام، وشيطان الإباحية، وشيطان الأزياء. ومن أحب أحدا من هـؤلاء الشياطين أو قلده، فهو ولي لهم، وهم أولياء له، باعتبار أن لكل هـؤلاء اهتمامات مشتركة تعمل في الاتجاه المضاد لصحة الأمة المسلمة وسلامة عناصرها في الإيمان والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة إن كانت قائمة، أو يعمل على إعاقة إخراجها إن كانت في مرحلة التكوين أو النشأة والنمو.

وهكذا تتمركز ولاية الشيطان في قلب الاجتماع البشري، وتحتل سلوكا بشريا متخلفا، وضارا لابد من مواجهته ودراسته. ولكن مؤسسات التربية الإسلامية حين خشيت - في عصور الجمود والاستبداد - شياطين السياسة والترف من الإنس، انحرفت للغوص في الغيبيات بحثا عن شياطين الجن التي لا ترى، وأشغلت تفكير الناس بذلك حتى انتهت بكثير منهم إلى الوسوسة والجنون. لذلك لابد للتربية الإسلامية أن ترد لمصطلح الشيطان، وولاية الشيطان، محتواهما الاجتماعي المتمركز في قلب الاجتماع البشري، ولابد لها أن تفتح ميادين جديدة في علم النفس للتعرف على العوامل والمؤثرات التي تنتهي بالإنسان الذكي إلى الشيطنة الفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والأخلاق، والتعرف على مضاعفاتها، وأساليب معالجتها، وطرق الوقاية منها. فذلك هـو الذي تدعو إليه الضرورات وتتطلبه التحديات، ويركز عليه القرآن الكريم، حين يتحدث عن شياطين البشر من القيادات الفكرية والسياسية وآثارهم السلبية في الجماهير التي تستجيب لشيطنتهم وتقتفي أعمالهم، من ذلك قوله تعالى: ( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هـل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) [سـبأ:33].

ولقد روى الطبري عن المفسرين قولهم عن (مكر الليل والنهار) أي مكركم أيها الرؤساء لنا بالليل والنهار - أي تدبيركم وتخطيطكم - حتى أزلتمونا عن عبادة الله والمنهج المستقيم في الحياة [4] والدرجة الثانية: ولاية الكافرين والمنافقين والعصاة بعضهم لبعض: وإلى هـذه الدرجة كانت الإشارة بأمثال قوله تعالى: [ ص: 108 ]

( وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ) [الجاثـية:19]، ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) [الأنفال:73].

فالكافرون والمنافقون والعصاة من القادة والموجهين، يتولون الأتباع بالتوجيه والتدريب على الممارسة والتطبيق، بينما يتولى الأتباع القادة والموجهين بالاستجابة، والاتباع، والإيواء، والنصرة، وهم جميعا يتعاونون لإقامة أمة الكفر والهيمنة في الأرض لنشر الفتنة والفساد الكبير.

التالي السابق


الخدمات العلمية