الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مظاهر الجهاد

لا يكون الجهاد أصلا شاملا ما لم تتابع التربية وظيفتها في تأصيل معناه، وتبيان مظاهره، وتفصيلها حسب متطلبات الزمان والمكان. والذي يقرر عمل التربية في هـذا المجال ثلاثة عوامل، الأول: درجة تطور البشرية. والثاني: نوع التحديات القائمة في الداخل والخارج. والثالث: إيقاف المظهر الجهادي أو إعماله.

وانطلاقا من هـذه العوامل الثلاثة تنقسم مظاهر الجهاد إلى ثلاثة مظاهر رئيسة، يندرج تحت كل منها تطبيقات عملية لا حصر لها ولا نهاية، وإنما هـي تتجدد بتجدد الخلق، وما يتطلبه هـذا الخلق الجديد من تجديد في الوسائل والعلاقات والمؤسسات. أما عن هـذه المظاهر الرئيسة فهي:

1-        الجهاد التربوي: يستهدف الجهاد التربوي تزكية الإنسان المسلم من منزلة (الخضوع للغرائز والدوافع) الآنية الموقوتة التي تبقيه حبيس الشهوات والانفعالات الفردية التلقائية، والارتقاء به إلى منزلة (تحقيق الذات) التي يحقق الإنسان عندها إنسانيته، فيسترشد بتفكيره وعقله وخبراته المنظمة عن الخالق والكون والإنسان والحياة. ويشير القرآن الكريم إلى المنزلة الأولى (الدنيا) باسم " أسفل سافلين " ، بينما يشير إلى المنزلة الثانية (العليا) باسم " أحسن تقويم " .

والجهاد - بالشكل المذكور - عمل يجب أن يعتمد على التخطيط العلمي، والإعداد الدقيق، ويجب أن تكون له مؤسساته، وخبراؤه، وميادينه، وطرقه، ووسائله، والمربون العاملون في مجالاته. ولذلك رفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجهاد التربوي والعلمي إلى منزلة الجهاد في ميدان القتال، وساوى فيه بين مداد العلماء ودماء الشهداء [1] وهنا لا بد من الإشارة إلى التشويه الذي أصاب ميدان الجهاد التربوي في فترات التقليد والجمود، وتجزئة نظرية التربية الإسلامية وميادينها. فقد أدى هـذا التشويه إلى تفسير (جهاد النفس) على اعتبار أنه مسئولية فردية تقع على الفرد المسلم وحده، حيث يدخل في عملية صراع عصبي مع دوافعه وشهواته، كلما دلف إلى موقف من مواقف الحياة، بحيث انتهى به هـذا التصور إلى نماذج الدرويش والمتزهد، اللذين يقدمان بؤس الحياة وصرامتها، بل تنظيمها وجمالها. [ ص: 54 ]

2-  الجهاد التنظيمي: وغاية هـذا الجهاد تنظيم وسع الأمة - حسب التعبير القرآني - أي: طاقاتها وقدراتها المعنوية والمادية والبشرية، والتنسيق بينها بما يكفل حشدها وتكاملها - دون هـدر أو نقص - لتحقيق أهداف الرسالة. ويوجه القرآن الكريم إلى أن " أمة المؤمنين " حين تفقه هـذا الجهاد التنظيمي وتتقنه، وتصبر على تكاليفه النفسية والمادية، فإن ما تحتاجه من الأفراد المؤمنين في هـذا الجهاد ستكون نسبة عددهم 1-10 مقارنة بما تحشده " أمة الكافرين " . والسبب في ذلك هـو انسجام فقه المؤمنين مع نواميس الخلق، وجهل الكافرين بهذه النواميس واصطدامهم بها، مما يجعلها تعمل لصالح معسكر المؤمنين وهزيمة معسكر الكافرين: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) [الأنفال:65].

أي لا يفقهون نظم الحشد والإعداد النفسي والمادي، وأساليب القتال، والاستفادة من استراتيجية الموقع والتوجيه المعنوي، وأهمية الهدف الذي يتم من أجله الحشد والجهاد.

والجهاد التنظيمي - بهذا المفهوم - لا يكون أيضا عملا فرديا، وإنما هـو مظهر استراتيجي يقتضي من الأمة أن تقيم له مؤسساته التربوية والعلمية والتطبيقية ومراكز البحث ووسائله ولوازمه، ولابد من تجدد علومه، والارتقاء بمؤهلات العاملين فيه، وتوفير التكاليف التي يحتاجها، والممارسات التي يتطلبها.

3-  الجهاد العسكري: وغاية هـذا الجهاد هـو إزالة العوائق التي تحول دون الحفاظ على بقاء النوع البشري ورقيه، حين لا تنجح أشكال الجهاد التربوي والتنظيمي في تحقيق هـذه الغاية وحدها. ويتجلى اقتران هـذا النوع من الجهاد بالرسالة الإسلامية، من خلال الضوابط العقدية والأخلاقية التي تحكمه، وتوجهه، بحيث لا يخرج لحظة واحدة عن غايات الرسالة وأهدافها. وحين يتحقق هـدف من أهداف الرسالة دون قتال، يتوقف الجهاد القتالي ويصير ممنوعا. والأمثلة على ذلك واضحة في التطبيقات النبوية؛ فعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: ( بعثنا  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله. فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته. فلما قدمنا، بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:

يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟! [ ص: 55 ] قلت: كان متعوذا. - أي يتظاهر بقولها ليعوذ من القتل - فمازال النبي - صلى الله عليه وسلم - يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم )
[2] وعن المقداد بن عمرو الكندي، وكان ممن شهد معركة بدر، قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أقتله يا  رسول الله  بعد أن قالها؟ فقال  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تقتله. قلت: يا  رسول الله إنه  قطع يدي ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟! فقال  رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ) [3] وتحتاج التربية الإسلامية في مظاهر الجهاد الثلاثة أن تحكم فقه كل مظهر منها. فالمظهر القتالي للجهاد يصبح مبررا ومعمولا به حين تشيع قيم الكفر، وتنشر العدوان، وتهدد بقاء النوع البشري، ولكن بروز اتجاهات الحوار بين المجتمعات الإنسانية، يوقف مظهر الجهاد القتالي، ويفرض على مؤسسات التربية الإسلامية إفراز مؤهلين لهذا الحوار، لا الشتم والتشنج والانفعال، القادرين على بذل أقصى جهودهم لبلورة المظهر الفكر للجهاد، ليجادلوا قادة الفكر العالمي بمناهج أحسن محتوى وأحسن إحاطة ورسوخا بحقائق الوجود والخبرات الإنسانية.

وانتقال البشرية من طور إلى طور -كأن تنتقل من طور الوحدات الإقليمية والقومية إلى طور التكتلات القارية العالمية كما هـو حاصل الآن - يقتضي من المؤسسات التربوية أن تعد متعلميها وعلماءها على بذل أقصى وسعهم للجهاد التنظيمي والاستراتيجي، لبلورة شبكة علاقات جديدة، تحدد الأطر والاستراتيجيات التي تنظم وسع الأمة المسلمة ومقدراتها كلها، لعبور الطور الجديد، والانتقال من طور القبلية والإقليمية والقومية - الذي يرتدون إليه حين ينسون سنن الله في الاجتماع البشري، فينسيهم الله مصالح أنفسهم - في الانتقال إلى طور العالمية، الذي يشكل محور التربية الإسلامية لإخراج الأمة المسلمة. [ ص: 56 ]

والخلاصة: فإن تنزيل الحكم أو إيقافه، يطبقان على مظاهر الجهاد حسب الظروف والمناسبات، وتحتل المظاهر السلمية للجهاد منزلة الأولية في كل سياق قرآني، حسب تدرج معين يشمل الجهاد بالمال، فإذا لم يكف دعمته مقدرات النفس العقلية والتنظيمية، ومقدرات العمل والإنتاج، وأخيرا المقدرات القتالية، مع بقاء الباب مفتوحا لأية لحظة يوقف فيها سفك الدماء ويجنح للسلم.

وتتضح أهمية الجهاد القتالي في حياة الإنسانية كلها، حين نرى أن الأفكار والمعتقدات التي تسود العالم عند غير المسلمين - خاصة الغرب - لم تتخل بعد - وقد لا تتخلى حتى قيام الساعة - عن حب العدوان والسيطرة، لاستبعاد الآخرين، ونهب مقدارتهم وإشاعة التخلف في حياتهم تطبيقا لمسلمة الصراع والبقاء للأقوى، التي يتقبلها العقل الغربي دون مناقشة ولا مراجعة، وينطلق منها في جميع ممارساته وسياساته [4] فالغرب يعتبر القتال أداة حيوية من أدوات الصراع وبقاء الأقوى، وينظر للقتال كضرورة بيولوجية لبتر العناصر الضعيفة لصالح العناصر القوية. ومن هـنا اشتدت عناية الغرب بالحياة العسكرية، وإنتاج الأسلحة وتطويرها. وهذه فلسفة بعيدة الغور في تاريخ الفكر الغربي، ومازالت تحتل مركز الصدارة. والأفكار التي تناولت قتال الأقوياء لإبادة الضعفاء عديدة وكثيرة شاعت منذ مطلع القرن العشرين، ومازالت تنمو وتتوسع وتنتشر وتوجه الممارسات السياسية والعسكرية [5] وأمام هـذه العقلية غير المسلمة، التي تعتمد الصراع أساسا في علاقاتها مع بقية المجتمعات البشرية التي تشاركها العيش على الكرة الأرضية، يبرز الجهاد الإسلامي رادعا للعقل الغربي ومضاعفاته في الفتنة والفساد الكبير، ويبرز الجهاد القتالي كإجراء موقوت [ ص: 57 ] هدفه بتر العناصر المترفة الخربة، من أجل إعادة التوازن والعافية للاجتماع البشري، كلما اضطربت قيم العدل والمساواة والحرية والإخاء في التملك والعلاقات البشرية. لذلك لا يكون الجهاد إسلاميا إلا إذا اقترن بالرسالة الإسلامية. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يوضح أن " الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل غضبا وحمية عصبية، والرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل رياء، فمن قاتل لتكون كلمة الله هـي العليا فهو في سبيل الله " [6] وكلمة (في سبيل الله) هـي الرسالة الإسلامية، وهي العطاء الحضاري الذي يقدمه المسلم للإنسانية، ليضمن بقاء النوع البشري ورقيه، وهي بعض تطبيقات المظهر الاجتماعي للعبادة، ومن هـذه الرسالة تكتسب الحضارة الإسلامية طابعها ومميزاتها، أما تفاصيل هـذه الرسالة فهي كما يلي:

 

التالي السابق


الخدمات العلمية