الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الطور الرابع: طور ولاء الفرد لنفسه

أبرز ملامح هـذا الطور هـو تدني المثل الأعلى الموجه للحياة في الأمة لتصبح حقيقته هـي:

دوران الأفكار والأشياء في فلك شخص الفرد نفسه

واتصاف المثل الأعلى بهذه الصفة يؤدي إلى انحسار محور الولاء من دائرة الأسرة إلى دائرة الفرد نفسه، مما يهيئ إلى انحسار عناصر الأمة: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، وانكماشها في بؤرة الأنانية الفردية؛ وتكون المحصلة النهائية لهذا الانكماش هـي تغير محتويات عناصر الأمة لتصبح معادلتها كالتالي: الأمة = ولاء الفرد لنفسه (إيمان + هـجرة + جهاد ورسالة + إيواء + نصرة) = أفراد أنانيون + هـجرة فردية + جهاد فردي + إيواء فردي + نصرة فردية.

حيث ينحسر محور الولاء إلى شخص الفرد نفسه ويصبح الطابع  العام هـو: دوران الأفكار والأشياء حول شخص الفرد نفسه.

أما دائرة الأسرة فتتحول إلى صلة نفاق لا صلة ولاء، أي هـي تنضم إلى مخزون أرصدة الأفكار والقوم والعشيرة لتنفق عند الحاجة من أجل مصالح الفرد الخاصة. وفي هـذا الطور تتفاعل مضاعفات المرض وتدفع بالأمة إلى حالة النزع الذي تتمثل مظاهره فيما يلي:

أ- ضآلة التفاعل مع الخبرات الاجتماعية والكونية

يتفاقم انحسار التفاعل مع الخبرات الاجتماعية والكونية، تبعا لتفاقم انحسار المثل الأعلى في الأمة. ويكون التجسيد العملي لهذا التفاقم في ميدان التربية، حيث (يقرأ الفرد باسم نفسه) دونما أية فلسفة تربوية أو أهداف، وإنما يتدرب على المعلومات والمهارات، التي تسوقه في [ ص: 126 ] أي مجتمع وتحت أي لواء. ولذلك يتحول إلى مواطن مرتزق يجوب الأرض للعمل تحت أي لواء، ويمنح لكل جهة ولاء.

ب-  تفاقم انحسار مستوى التفاعل مع الرسالة

في هـذا الطور تصبح رسالة الفرد في الحياة أن يعيش طبقا لما يقتضيه محور ولائه لنفسه، وتصبح شبكة العلاقات الاجتماعية كما يلي:

·       يصبح محتوى الإيمان بشهوات الفرد وتأمينها محددا لجنسيته وثقافته، فهو قابل للذوبان في أية جنسية وفي أية ثقافة.

·       ويصبح المكان الذي يجد الفرد فيه قضاء مصالحه، هـو المهجر الذي يشد إليه رحاله..

·       ويصبح العمل لتأمين المصالح المذكورة هـو مظهر الجهاد الذي يفرغ الفرد فيه طاقاته العقلية والنفسية والجسدية.

·       ويتحدد مفهوم الإيواء في توفير الإقامة المريحة الزاخرة بمصالح الفرد نفسه.

·       ويتحدد مفهوم النصرة في منافحة الفرد عن مصالحه الخاصة دون سواها.

·       ويتحدد مفهوم الولاية في الأنانية الفردية، وتقديمها على أي شيء آخر.

وبلوغ الأمة هـذا الطور معناه: تمزق شبكة العلاقات الاجتماعية، وتعطل الفاعلية الاجتماعية لعناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية. وأبرز مظاهر هـذا التعطل هـو انفجار الأسرة، آخر الوحدات الاجتماعية في الأمة، وانصراف كل عضو فيها لشؤونه الخاصة دون سواه. وبلوغ الأمة هـذه الحالة يحولها إلى أكوام بشرية لا علاقة بينها، ومعنى هـذه الحالة: الدخول في المرحلة الثالثة: مرحلة الوفاة!!

وأخيرا لابد من الانتباه إلى الملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: إن سلسلة الانحسارات المتوالية التي تمر بها الأمة، تتم بدرجة متفاوتة عند أفراد الأمة وجماعاتها، فقد يكون أناس على دائرة الولاء للأفكار، في الوقت الذي يكون آخرون على دائرة الولاء للقوم، وتتناثر الأكثرية على دوائر الولاء للعشيرة، والعائلة، والطائفة، والفرد.. وفي هـذه الحالة يعاني الذين يعيشون على الدوائر الواسعة، من الاغتراب الفكري والاجتماعي، ولا يكون لهم أثر في الأحداث أو إيقاف السرطانات الاجتماعية التي تؤدي بالأمة إلى الوفاة!!

والملاحظة الثانية: ليس حتميا أن تتوالى الانحسارات حتى تنتهي بالأمة إلى الوفاة، فقد تقوم حركات مراجعة، وتوبة إصلاحية، ترد للأمة قسطا من العافية، أو تمنع زيادة الانحسار لمدة،وتنقلها من المرض إلى الصحة. [ ص: 127 ]

والملاحظة الثالثة: يمكن المحافظة على عافية الأمة وصحتها، إذا كان هـناك رقابة وتوبة دورية، وترميم لظواهر الاختلال، أو مقدمات المرض، والقيام بهذه المهمة يحتاج إلى مؤسسات متخصصة تضم عددا كافيا من الخبراء المختصين يتناسب عددهم مع عدد الأمة.

ولعله من الموضوعية أن نقول: إن الأمم الغربية المعاصرة قد انتبهت إلى الملاحظة الثالثة، وأقامت المؤسسات المتخصصة التي تفحص نشاطات الأمة بمختلف الوسائل العلمية، كالبيانات الاستطلاعية، والدراسات الإحصائية، والاستفتاءات، والتنقيب في ثمار الخطط، وتقويم المشروعات، وفي جميع هـذه الوسائل توفر لها حرية النقد، والتعبير، والتشخيص؛ لأنه بدون هـذه الحرية لا يمكن أن يكون هـناك تقويم وتصحيح. [ ص: 128 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية