الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مقدمة

إخراج الأمة المسلمة هـو الهدف الثاني من أهداف التربية الإسلامية.. وما لم توجه العناية إلى بلورة هـذا الهدف، وتربية (إنسان التربية الإسلامية) عليه، فإن الجهود التي تبذل لتحقيق الأول: هـدف تربية الفرد المسلم، لن تكون ذات قيمة؛ لأن الأفراد الصالحين هـم عنصر واحد من عناصر تتفاعل لتجسد (الأمة المسلمة) في بناء اجتماعي واقعي، يلبي الحاجات والتحديات القائمة، وإلى هـذا البناء كانت الإشارة في الحديث النبوي القائل: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ) [1] ( والمؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [2] وكما أن البنيان المرصوص ليس كومة من الحجارة، وإنما هـو جذر متينة من الحجارة المصقولة المشدودة بالإسمنت والحديد، حسب قوانين هـندسة البناء، وعدد الأعمدة، والجسور والعقود، وعمق الأساس، وسمك الجدار، ومقدار الارتفاع، وظروف المناخ المحيط؛ وكما أن الجسد لا يتداعى أعضاؤه بالسهر والحمى للعنصر المصاب، إلا إذا كان لذي الجسد قلب نابض بالحياة، ويدبر أموره دماغ سليم، وأجهزة معافاة للهضم والتنفس، وشبكة نشطة من الشرايين والأوردة والأعصاب، ودم نقي متوازن التركيب، فكذلك الأمة ليست أكواما بشرية (صالحة أو غير صالحة) ، وإنما هـي نسيج اجتماعي تحكمه قوانين بناء الأمم، وصحتها، ومرضها، وموتها، وتتلاحم فيه مكونات الأمة، [ ص: 13 ] وتعمل متكاملة بحيث يكون حصيلة هـذا كله: (إخراج الأمة المسلمة) ، وقيامها بوظائفها، طبقا لحاجات الزمان والمكان.

وتتكامل المرحلتان: مرحلة تربية الفرد المسلم، ومرحلة (إخراج الأمة المسلمة) ، بحيث تكون الأولى مقدمة للثانية، ولا تغني واحدة دون الأخرى، ولذلك كان التركيز في المرحلة المكية على تربية الفرد المسلم، أو الإنسان الصالح المصلح، بينما كان (إخراج الأمة المسلمة) ، هـو محور العملية التربوية في المرحلة المدنية [3] غير أن البحث في المصادر الإسلامية، يكشف أن لـ " الأمة " في التاريخ الإسلامي مفهومين: مفهوم نظري في القرآن والسنة، وهو مفهوم يقدم النموذج الذي يجب أن تكون عليه الأمة، وقد اخترت في هـذا البحث أن أطلق عليه اسم " الأمة المسلمة " .. ومفهوم عملي يمثله كيان " الأمة " الذي برز عبر العصور الإسلامية، ابتداء من عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى الوقت الحاضر، وقد اخترت أن أطلق عليه اسم " الأمة الإسلامية " . وتبين وقائع التاريخ أن المفهوم العملي للأمة قد تطابق مع المفهوم النظري لزمن معين - هـو عصر الرسول وعصر الخلافة الراشدة - ثم أخذ في الابتعاد تدريجيا، حتى انتهى إلى مخالفته تماما، مثبتا بذلك ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال: ( تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما ) [4] ( خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. -قال عمران، راو الحديث: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن ) [5] [ ص: 14 ]

وهذا يعني - بشهادة  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - أن " الأمة الإسلامية " لم تكن طوال التاريخ " أمة مسلمة " راشدة بشكل كامل، وإنما أخذت -منذ وقت مبكر- بالانحراف عن نموذج الأمة في القرآن والسنة. والواقع أن مؤسسات التربية الإسلامية في العصور التي تلت عصر النبوة والخلافة الراشدة تركت - أو أجبرت على ترك – " فقه " إخراج الأمة المسلمة، وما يتطلبه هـذا الإخراج من نظم وتشريعات ومؤسسات تقي الأمة من التسلط، وتحميها من عوامل المرض، وأخطار الوفاة. ثم نسيت هـذا الهدف، ثم انحسرت لتقتصر على تربية الفرد الصالح (غير المصلح) ، الذي يهيأ منذ الطفولة للانتقال إلى الآخرة، دون التدرب على عبور محطة الدنيا. وهذا النموذج في التربية هـو الذي ورثته مؤسسات التربية الإسلامية في العصور الحديثة، حيث مازالت هـذه المؤسسات تعمل على أساس أنه " إذا صلح الفرد صلحت الأمة " . ومازالت مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية، والحركات العاملة في ميدان العمل الإسلامي، تتقبل هـذه المقولة وتتعامل معها، وكأنها آية من آيات الكتاب، وليس كفرضية من الفرضيات البشرية التي قد تثبت أو لا تثبت بالاختبار والتجريب في مختبر الآفاق والأنفس. فكانت النتيجة العملية لهذه الممارسات التربوية الخاطئة هـي تكدس الأفراد المسلمين في أكوام بشرية ليس لديها علوم محددة عن " فقه " بناء الأمم، وتنسيق القدرات البشرية والمادية. ولذلك أصبحت لعبة سهلة بأيدي قوى الاحتلال الخارجي، التي مازالت تصنع من شظايا الأمة المسلمة المريضة مزقا من الكيانات المهيضة، التي تطلق عليها اسم " الأمم المسلمة " وتحدد لها " جنسياتها " و " ثقافاتها " ومحاور " الولاء " فيها طبقا لنظريات عصبية متخلفة، وتصمم لها تطبيقاتها الخاوية الضعيفة في شئون السياسية والإدارة والاجتماع.

والمحصلة النهائية لجهل المؤسسات التربوية الإسلامية بإخراج الأمة المسلمة هـي: أن هـذه المؤسسات مازالت تعمل على إعداد أفراد صالحين (غير مصلحين) لتقذف بهم إلى بيئات غير صالحة، حيث تدخل فضائلهم الفردية في صراع وعلاقات اجتماعية غير فاضلة، إلى أن ينتهي بهم الأمر إلى الازدواجية في السلوك وإلى التلاوم والتآكل، ثم الوقوع ضحية الانفعالات والانفجارات التلقائية، والجهاد المرتجل، أو المصطنع، الذي كثيرا ما ينتهي بهم إلى الانتحار الاجتماعي، أو السحق تحت ضغط الإحباطات، والنكسات، دون أن ينتبه أحد إلى أن المطلوب هـو " فقه " جديد - أو علم جديد - يتكامل فيه علم (إخراج الأمة المسلمة) وعوامل صحتها ومرضها وموتها وبعثها، إلى آخر ما يتعلق بها. [ ص: 15 ]

من هـذه الحاجة ولدت الأفكار التي تضمنها هـذا البحث، مستهدفة الإسهام في استكشاف - فقه إخراج الأمة المسلمة - وبلورة أصوله، وتنبيه الباحثين الإسلاميين إلى دخول ميدانه في ضوء الغايات العليا التي ترشد إليها توجيهات القرآن الكريم والسنة الشريفة، والشئون المتجددة في الآفاق والأنفس.

والله سبحانه يتولانا بالهداية والتعليم، فإنه لا علم لنا إلا ما علمنا، ولا فهم لنا إلا ما فهمنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.

الدكتورماجد عرسان الكيلاني
[ ص: 16 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية