الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الرابع عشر توصيات

ويخلص البحث إلى التوصيات التالية:

التوصية الأولى إيجاد مؤسسات تشمل المدارس والمعاهد والجامعات ومؤسسات البحث العلمي، لتقوم بأسلمة التربية والعلوم من خلال النشاطات التالية:

1-   القيام بالمراجعة، أو توبة تربوية جريئة، مستقلة من التأثيرات الآبائية والأجنبية، هـدفها تمحيص التراث المنحدر من الآباء، أو تلك الوافدة من عند الغرباء، بغية التعرف على ما كان أصيلا يتفق مع مفهوم الأمة المسلمة في القرآن والسنة في الحالة الأولى، وما كان متنافرا مع القرآن والسنة في الحالة الثانية، وما كان في الحالتين يحمل في طياته عوامل الخطأ، الضعف، والجمود.

والقيام بهذه المراجعة أو التوبة، يضع الأمة على الصراط المستقيم، الذي يتوافق مع سنن الحياة وقوانينها، ويتفق مع قوانين التغيير القرآنية، التي تقرر أن الله لا يغير ما بقوم من أزمات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من محتويات فكرية، وثقافية، وقيم، وعادات، وتقاليد، تتعلق بميادين الأزمات المذكورة.

2-   ممارسة الاجتهاد الذي يؤدي على ظهور علوم سياسية وإدارية واقتصادية واجتماعية، تبلور مفهوم الأمة المسلمة، ومحتويات عناصرها في الإيمان، والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، حسب ما توجه إليه أصولها في القرآن والسنة، وتتطلبه حاجات الأزمنة والأمكنة، والتحديات في الداخل والخارج.

3-   تحويل ثمار الاجتهاد المقترح، إلى خطط ومناهج وطرق تربوية، يستطيع إنسان التربية الإسلامية من خلالها أن يعيش مضامين العناصر المكونة للأمة المسلمة فكرا وعملا، ويكون من ثمارها النهائية: تنمية الولاء للأمة المسلمة وحدها، والعمل على إخراجها من جديد، والقضاء على الولاءات العصبية، التي تتعارض مع هـذا الولاء وتضعفه. [ ص: 151 ]

4-   تقويم الاجتهادات النظرية، والتطبيقات العملية الخاصة بمفهوم الأمة المسلمة، تقويما مستمرا في ضوء الحاجات المتجددة، والتغيرات الحاصلة في الزمان والمكان.

التوصية الثانية تطوير المؤسسات اللازمة للقيام بمسؤولية تنفيذ المشروعات المقترحة في التوصية الأولى، وتزويد هـذه المؤسسات بأعلى المؤهلات، وأدق الأجهزة والأدوات، ومتابعة جهودها بالتقويم المستمر. ويراعى تنوع هـذه المؤسسات إلى أقسام تتطابق مع مسؤوليات الأمة المسلمة، كأن تكون كما يلي:

1-   مؤسسات تمارس الاجتهاد والنظر في آيات الوحي، بغية بلورة نموذج المثل الأعلى الذي تتطلبه حاجات الزمان والمكان.

2-   مؤسسات تنظر في " الخبرات الاجتماعية والكونية " في العالم كله، بما في ذلك دراسة الثقافات العالمية المختلفة، وأنماط التفكير السائدة فيه، لبلورة وسائل تحقيق المثل الأعلى.

3-   مؤسسات وظيفتها رسم الاستراتيجيات اللازمة للتفاعل مع المجتمعات العالمية في ضوء معطيات المثل الأعلى، الذي تفرزه المؤسسات رقم (1) ، ونتائج شهود الخبرات الاجتماعية والكونية التي تفرزها المؤسسات رقم (2) .

والواقع أن الأزمة الرئيسة في العمل الإسلامي، وفي الحضارة الإسلامية خلال التاريخ الإسلامي كله، هـي عدم تقدير دور المؤسسات، وعدم إعطائها ما تستحقه من عناية، خاصة في ميدان السياسة والاقتصاد، وترك المشروعات والإدارات للجهود والمبادرات الفردية، وتوقع قيام الفرد القائد بدور النبي المرسل، المؤيد بوحي السماء، ونصرته، سواء على مستوى الدول أو الجماعات. لذلك كانت - ومازالت - حركات اليقظة، ومشروعات الإصلاح، حركات فردية موقوتة، تعتمد على كفاءات الفرد القائد، أو الفرد المصلح، وعلى قدراته الشخصية خلال حياته.. وغياب الفرد عن مسرح الحياة يشكل نكسة حاسمة في اليقظات والمشروعات، قد ترد الأمة إلى نقطة الصفر، أو تحولها للسير في الاتجاه المعاكس، وهذا القول ينطبق على جميع حركات الإصلاح، التي قادها مصلحون دينيون، أو سياسيون في الماضي والحاضر.

والتوصية الثالثة ضرورة تكامل " التعليم ومؤسسات مع التنظيم ومؤسساته " ، أو نقول: تكامل عمل المدارس والجامعات، مع الأحزاب والمؤسسات والجماعات. فلقد دأبت الحركات الإسلامية العاملة للإصلاح والوحدة - منذ مطلع هـذا القرن - على اعتماد الوعظ الجماهيري، بدل التعليم المنظم، تاركة " التعليم والتربية " للمدارس والمعاهد والجامعات التقليدية، التي انحدرت من عصور الجمود والانحطاط، أو تلك التي أنشأتها [ ص: 152 ] البعثات التبشيرية، أو تلك التي أنشأتها الحكومات الرسمية بتوجيه خبراء التعليم الأجانب. ولقد كان لهذه الظاهرة آثارها السلبية القاتلة، إذ أن المؤسسات التربوية المشار إليها كانت - ومازالت - ترفد المجتمعات الإسلامية، والحركات، والأحزاب، بخليط متنافر التفكير والثقافات، كل يحمل معه بصمات المدرسة أو المعهد أو الجامعة التي تخرج منها. ولذلك ضمت الحركات الإسلامية أفرادا يؤمنون بمثل عليا مختلفة متنافرة، بينما يقفون تحت شعارات وعموميات ضبابية غامضة، دون أن يكون لديهم استراتيجيات صائبة للتعليم أو التنظيم.

ولعله من الموضوعية والرجوع إلى الحق أن أنبه هـنا إلى ما ورد في كتاب " هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس " في الصفحات (288-295) ، حول اعتبار الأحزاب والجماعات استراتيجية ضارة خاسرة. والواقع أنني بعد تحليل الظاهرة بعمق وشمول أكثر، أقرر أن الأسباب العشرة التي دللت بها على ضرر الجامعات والأحزاب هـي في الحقيقة أسباب لعدم التكامل بين المؤسسات التعليمية والفكرية، التي تمثلها المدارس والجامعات، والمؤسسات التنظيمية التي تمثلها الأحزاب والجماعات. ذلك أن ترك التعليم في أيد مؤسسات أجنبية، ومحلية بنت فلسفاتها وأهدافها، ونظمت مناهجها وتطبيقاتها، حول قيم العصبيات القبلية، والطائفية، والأقليمية، والآبائية، أفرز أحزابا وجماعات متأثرة بهذه القيم، مما أشاع التنافر في علاقاتها، وجعلها في ولاءاتها، قبائل من لا قبيلة له، أو طوائف من لا طائفة له.

والتوصية الرابعة تنظيم علاقات " الأفراد المؤمنين " الذي تخرجهم مؤسسات التعليم، وينتمون إلى مؤسسات التنظيم في شبكة علاقات اجتماعية، يكون العامود الفقري فيها هـو عناصر الأمة الستة، أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، حسب التفصيلات التي مرت في هـذا البحث.

ويراعى أن يتم بناء هـذه الشبكة على مستويين اثنين: المستوى المحلي الذي ينظم علاقات الأمة الصغرى، أي أفراد الجماعة أو الحزب أو الأقلية الإسلامية.. ثم المستوى العالمي الذي ينسق نشاطات الأشكال المحلية من الجماعات والأحزاب والأقليات، في تنظيم عالمي فعال، غايته النهائية " إخراج الأمة المسلمة الكبرى " في أرض ما حول الأقصى والمسجد الحرام، التي أرادها الله قاعدة للأمر المعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، والتي خطط حدودها إبراهيم عليه السلام، واكتملت وظيفتها في انطلاقة محمد صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، كما مر في فصل سابق.

فإذا اكتمل إخراج هـذه الأمة الكبرى، أصبح فرضا على الأمم المسلمة [ ص: 153 ] الصغرى الموقوتة، من الأحزاب والجماعات والأقليات، أن تهاجر هـجرتها المادية إلى أرض الأمة المسلمة الكبرى، لتتلاحم وتتحد متظافرة متوالية لاستئناف حمل رسالة الإسلام إلى العالم كله.

والتوصية الخامسة بلورة مفهوم رسالة إسلامية عالمية، يحل محل الشيوعية التي انهار معسكرها، وأعاد الإنسان المستضعف إلى حالة اليتم واليأس والقنوط، وفسح المجال أمام الإنسان المترف للعربدة في الأرض، وتكرار قولة فرعون: (أنا ربكم الأعلى) ، أنا القوة العظمى " super Power " التي لا تقهر!

ولتملأ الحركة الإسلامية الجديدة الفراغ الشيوعي، على  المستوى العالمي، لابد أن تدرس نقاط القوة ونقاط الضعف في الحركة الشيوعية دراسة إسلامية علمية يتوفر فيها عنصرا الإحاطة والرسوخ، ويكون هـدفها الاستفادة من جوانب القوة، وتجنب جوانب الضعف.

إن جانب القوة الذي جعل من الشيوعية قوة عظمى حوالي نصف قرن، هـو التمحور حول المظهر الاجتماعي للإصلاح أولا، فهذا المظهر هـو الجانب المقابل للمظهر الاجتماعي للعبادة في الإسلام [1] الذي أهمله المسلمون، واكتفوا منذ قرون بالحديث عن الجانب الديني.. ثم التوسع ثانيا في تطبيق المظهر الاجتماعي، ليشمل العالم كله، دون التزام بجنس من الأجناس، أو قومية من القوميات. فهذا المظهر هـو المقابل للأخوة الإنسانية، الذي نسيته الحركة الإسلامية الحديثة، وانحرفت لتدافع عن " قابلية الاستعمار " في العرب والباكستانيين والإيرانيين والمسلمين الأفارقة، التي تغازل الاستعمار وتغريه وتوقظ غرائزه، وتثير شهيته، كلما أتعبته مغامرات الغزو والتسلط.

ولكن يجب الانتباه إلى جوانب الضعف في الشيوعية، التي تمثل فروقا حاسمة بين الإسلام والشيوعية. وتتمثل هـذه الجوانب في أمور منها:

الجانب الأول: هـو النظر إلى موقع الإنسان في سلم الوجود.. فالمفهوم الماركسي لهذا الموقع، هـيأ لمقتل كبير من مقاتل الشيوعية نفسها، حينما جعلت الإنسان في الموقع الأول في الوجود، وأنكرت الخالق، كرد فعل لوقوف الكنيسة إلى جانب معسكر المترفين، وليس كنتيجة من نتائج البحث العلمي والنظر الموضوعي في الوجود.

وفي دراستنا لهذا الجانب، لا يجوز المسارعة إلى القول بأن انهيار المعسكر الشيوعي يعني فشل الشيوعية وانتصار الرأسمالية، كما يشاع الآن، بل لا بد من فحص المكونات الرئيسة للشيوعية، وهي: الماركسية، واللينينية، والستالينية، وتحديد مقدار المسئولية التي تقع على [ ص: 154 ] عاتق كل عنصر من هـذه العناصر الثلاثة، ذلك أن الماركسية من الناحية الاقتصادية دعت إلى الاشتراكية، ومن الناحية السياسية دعت إلى حكم العمال. أما اللينينية، فقد شابهت الماركسية في تبني الاشتراكية، واختلفت عنها في الدعوة إلى حكم الحزب الشيوعي. وأما الستالينية، فقد شابهت الماركسية واللينينية في تبني الإشتراكية، واختلفت عن الاثنين في الدعوة أو تبني حكم الفرد الزعيم.

وهناك فرق شاسع في التطبيق الاشتراكي الذي يشرف عليه العمال، أو ذاك الذي يشرف عليه الحزب، أو ذاك الذي يشرف عليه الفرد الزعيم، فالحالة الأولى لم تطبق في تاريخ الشيوعية، والحالة الثانية اسندت القيادة إلى أقلية تنتسب للعمال، ولا تشاركهم عملهم ولا طبقتهم، والحالة الثالثة اسندت القيادة إلى فرد واحد تربع على راس الهرم البشري كله ليقول كذلك: أنا ربكم الأعلى!!

والفرضية المطروحة هـنا هـي: أن انهيار المعسكر الشيوعي أمام المعسكر الرأسمالي تتحدد في التطبيقات السياسية والإدارية أكثر من المفاهيم الاقتصادية.

ونقطة الضعف الثانية هـي: مفهوم الشيوعية عن طبيعة الإنسان، الذي نقلته عن الدارونية الاجتماعية، والتي نقلها دارون بطريقة غير مباشرة عن الخطيئة الأصلية في المسيحية. فهذه الفكرة أصلت الشر في طبيعة الإنسان، وبرزت نظرية الصراع الطبقي، التي طرحتها الماركسية، ووضعت الإنسان في المركز الأول، وليس المركز الوسط، حينما تنكرت لوجود الخالق وتبنت الإلحاد، فكان من ثمرة ذلك: أن جعلت الإنسان العامل عرضة لقابلية مرض الطغيان. فعندما تراءى للحزب الشيوعي/اللينيني أنه استغنى، طغى وانقلب إلى أقلية أرستقراطية أبشع من أرستقراطية المعسكر الرأسمالي. وحين تراءى للفرد الستاليني أنه استغنى انقلب إلى رأسمالي مركز، فتأله وقال: أنا ربكم الأعلى، وتنكر - من الناحية العملية - لقيم الماركسية ومبادئها مبرهنا قوله تعالى: ( كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى ) [العلق:6، 7].

إذن المطلوب من الحركة الإسلامية الجديدة، المرشحة لملء الفراغ العالمي الذي خلفه انهيار الشيوعية، أن تراعي الاختلافات الحاسمة، التي تميز الإسلام عن الشيوعية، والإيجابيات الفعالة التي مكنت للشيوعية مقدار نصف قرن تقريبا. أما عن الاختلافات الحاسمة فأبرزها:

النظر إلى هـوية الإنسان وطبيعته: ولقد استعرضنا مفهوم الهوية في فصل الأفراد المؤمنين. أما عن طبيعة الإنسان، فلابد من الانطلاق من المبدأ الإسلامي الذي يقرر أن الإنسان خير في الأصل، والشر طارئ عليه، وليس العكس كما قررت الشيوعية والرأسمالية. [ ص: 155 ]

وأهمية هـذا التصور أن الحركة الإسلامية الجديدة سوف لا تقف إلى جانب طرف ضد الطرف الآخر، كما فعلت الماركسية، ولن يكون هـدفها قهر طرف من أجل هـيمنة الطرف الآخر، وإنما سوف تعمل على إنفاذ الطرفين من مضاعفات مرض الانقطاع عن الله والإسراف في حب الدنيا. فهذا المرض هـو الذي أصاب المترفين بسرطان الطغيان، حين أبطرتهم القوة والثروة، وتحولوا إلى مترفين متسلطين، فتخطوا حدود الوسطية التي تحقق العافية والتوازن في الاجتماع البشري، وألحقوا الضرر بغيرهم حين سلبوهم حقوقهم في العيش الكريم والحرية، وألحقوا الضرر بأنفسهم حين سلبوها الأمن، ومحبة الله والناس من حولهم.

كذلك أصاب المرض المذكور المستضعفين بسرطان الهوان حين أيأسهم فقدان القوة والثروة، وتحولوا إلى كافرين بالخير والدين، والأخلاق والإنسان.

وتبني الحركة الإسلامية الجديدة هـذا التصور، يجعل هـدف " إخراج الأمة المسلمة " أن تكون " المرشد الأعظم Supreme Guide وليس القوة العظمى  Super Power " . وهذا هـو المنصب الذي ترمز إليه قصة ذي القرنين في سورة الكهف من القرآن الكريم، فإذا توجهت الأمة المسلمة شرقا، ووجدت شعوبا معرضة لهجمات هـمجية يأجوجية ومأجوجية، لا تستغل ضعف هـذه الشعوب، ولا تجعل منها سوقا دولية للسلاح. وإذا توجهت غربا ووجدت شعوبا جاهلة متخلفة، لا تستغل تخلفها وجهلها لابتزاز ثرواتها ومصادر عيشها، وإنما تدافع عن المعتدي عليه، وتأخذ بيد الضال، قائلة لكلا الطرفين إذا عرضوا عليها أجرا: ( ما مكني فيه ربي خير ) [الكهف:95].

وهذا النموذج للأمة المسلمة المنشودة، هـو الذي يحدد صورة المثل الأعلى الجديد، الذي يجب أن تطرحه الحركة الإسلامية للعالم كله، ليكون علاجا حاسما لمرض الطغيان والاستضعاف، ووقاية للبشرية من النظام العالمي الجديد، الذي يعمل المترفون المنتصرون على إخراجه، بعد سقوط المعسكر الشيوعي، للانفراد بمصادر العيش، وحرق أيتام المستضعفين في أتون الحروب الإقليمية المفتعلة، بعد أن تخلي قادة المعسكر الشيوعي عنهم، وأعلنوا الانضمام إلى نادي المترفين العالميين!!

وانتشار عقلية الطغيان التي تنسى الله الخالق، وتغفل عن سننه في التاريخ والاجتماع البشري، وتضع الإنسان المترف في المقام الأول في الوجود، عقلية خطيرة مدمرة، تحمل في تلافيفها مقتل صحابها، فقوة الله القيوم قائمة في التاريخ، فاعلة مهيمنة في الاجتماع البشري، وسوف نرى عملها فلا تستعجلوه!!

وعلى الحركة الإسلامية الجديدة أن تقنع العالم بالبينة، وسلطان البرهان والعلم، أن سنن الله لا يعلو عليها الإنسان المترف، الذي يطغى، أن رآه استغنى، فإن إلى ربنا الرجعى!!

والتوصية السادسة أن الحركة الإسلامية الجديدة تحتاج أن تضع في قمة أساليبها: بناء مؤسسات القراءة، والانطلاق من القراءة في كل عمل أو نشاط.. [ ص: 156 ]

والمقصود بالقراءة قراءة كل ما يتعلق بالأمم التي تسكن قرية الكرة الأرضية، ونشاطاتها، وثقافاتها، وأنماط تفكيرها، ولابد من توفير وسائل القراءة التي تبتكرها تكنولوجيا العصر، وتيسر الإحاطة بكل لغات العصر، وفلسفات العصر، وشؤون العصر.. ولابد من توفير القراء التخصصين المتفرغين، الذين يتوزعون ويتكاملون حسب موضوعات القراءة وميادينها ووسائلها؛ لأن القراءة المطلوبة يجب أن تحيط بكل ما يجري في قرية الكرة الأرضية، وترسخ في التفاصيل الدقيقة قبل أن تقدم على أي تخطيط أو تنفيذ. وهذا هـو اللائق بالأمة التي تنهض للعمل باسم دين بدأ الوحي فيه بكلمة (اقرأ) ، ولم يبدأ بـ " جاهد) أو " صل " أو " حج " أو " زك " .. أو.. أو.. لأن كل جهاد وصلاة وحج وزكاة أو عمل، لا تسبقه قراءة راسخة محيطة بأهداف العمل وميادينه، ومناهجه، وطرقه، ووسائله، وأدواته، وطبيعة عصره، سوف يكون عملا فاشلا خاسرا.

إن آفة المسلم التقليدي، أنه يناصر ويخاصم بدون قراءة، وهو إن قرأ فقراءته سطحية، لا تتصف بالإحاطة والرسوخ. يناصر الإسلام ولا يقرأه، أو هـو يقرأ شعارات عامة وملصقات ذهنية غائمة. ويخاصم الشيوعية أو الرأسمالية، ولا يقرأ كتبها الأصلية، وأصولها الفكرية، إلا ما قرأه في الصحف أو سمعه من إذاعات المعسكرين اللذين كانا يتسابقان لقولبة الأذهان وتعبئة المشاعر، وتشكيل الاتجاهات لصالحهما، وضد بعضهما بعضا، ولذلك يقع المسلم التقليدي في أخطاء قاتلة وينتهي إلى إحباطات مدمرة

والتوصية السابعة أن الحركة الإسلامية الجديدة، تحتاج إلى شجاعة ووعي، لفك الارتباط القائم بين العمل الإسلامي، وأزمات العصبيات القبلية والإقليمية المتتالية في مزق الأمة الإسلامية. أي هـي بحاجة أن لا تضع العمل الإسلامي لمعالجة المضاعفات التي يتسبب بها " حران " العربي المعاصر، والباكستاني المعاصر، والإيراني المعاصر، ونظائرهم وأقرانهم في العالم الإسلامي، عن دخول عصر التكتلات العالمية التي تلغي الحدود الإقليمية، وتطلق الولاءات العصبية، وترتقي إلى دائرة الولاء للأفكار الإسلامية العالمية وولاءاتها.

فسرطان المسلم التقليدي الذي سوف يقتله، ويشطبه من الوجود، هـو هـذا " الحران " العنيد الذي مارسه منذ عهد بعيد، ومازال يمارسه ويرفض الانتقال إلى طور أمة العالمية، الدائرة في فلك الأفكار الإسلامية، ويصر على البقاء في طور العصبيات الإقليمية، ويتحايل على دائرة الانتماء الإسلامي بمنظمات صورية، تكون بمثابة المقابر التي تدفن فيها مشكلات " مزق " الأمة الإسلامية المتوفاة!! الأمر الذي خرج به عن صراط الإيمان والإسلام، وأركسه في تعرجات النفاق، الذي بدأ صغيرا ثم تطور إلى نفاق أكبر، أركسه في الدرك الأسفل من هـوان الدنيا، ويؤهله للدرك الأسفل من نار الآخرة. [ ص: 157 ]

ولا يقتصر هـذا الحران العنيد، ورفض الانتقال من ثقافة العصبية القبلية وتطبيقاتها على الأنظمة السياسية والإدارية القائمة في " مزق " الأمة الإسلامية المتوفاة!! بل أن الحركات الإسلامية القائمة لم " تتزك " من ثقافة العصبية القبلية، وإنما بقيت غارقة في حمأتها حتى الأذن.. فالمرشد العام للجماعة، أو " المراقب العام " أو الأمين العام للجماعة، أو الحزب، يبقى مرشدا راشدا، وأمينا أمينا مدى الحياة، محاطا بالعصمة، التي تحيط بشيخ القبيلة، ولا يطوله النقد الذي طال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وحين يموت يرثه في منصب المرشد، أو المراقب، أو الأمين العام، أو المجلس النيابي، ولده والمجموعة المتعاونة معه، لا يجري اختيارها طبقا لمقاييس الدوران في فلك أفكار الجماعة، أو الحزب، وإنما طبقا للدوران في فلك أشخاص القربى والمصاهرة، والشراكة التجارية، والصداقات الشخصية، أو طبقا لمستوى امتلاكهم للأشياء الدنيوية، أو طبقا للانتماء الإقليمي، وأمثاله.

والدعوة ليس لها استراتيجية ولا خطط ولا مؤسسات، وإنما هـي ارتجال وردود فعل لما تطرحه مؤسسات الإعلام المحلية والعالمية، واستجابات إشراطية منفعلة كاستجابات الحمية القبلية.

وأساليب الدعوة تقتصر على الخطابة والموعظة غير الحسنة، القائمة على الانفعال والارتجال، الجاهلية بالنفس البشرية ومفاتيحها. وليس هـناك مؤسسات لإخراج من يدعو بالحكمة، وإعداد الموازيين لمتطلبات العصر. وليس هـناك مؤسسات لإعداد المفكرين المختصين بالجدال الأحسن الذي يخاطبون الفكر الإنساني كله بأحسن مما عنده. وليس هـناك مؤسسات لشهود ما يجري في قرية الكرة الأرضية، وقراءته قراءة راسخة محيطة تمهد لحكمة التخطيط والتنفيذ.

ليس هـناك شيء من هـذه المؤسسات والاستراتيجيات، بل الأمر متروك لكر والفر الفكري الخطابي، وللجهود الفردية، فإذا أفرزت الصدفة مفكرا فردا فظهر أمره وشاع، استثمرت الجماعة أو الحزب أفكاره ومجهواته، مادامت توصف بالصواب، وتحظى بالقبول، وإذا تناول النقد أفكار الفرد المذكور، أو أصاب التطرف تطبيقاتها، تبرأت الجماعة من المفكر وأفكاره، وألقت المسؤولية عليه وحده.

والتوصية الأخيرة أن يتم التنسيق بين كافة المؤسسات المقترحة لتكون دائرة عمل فاعلة، متجددة بتجدد الحياة واستمرارها. مثلما كان الطائر والسمكة هـما النموذج الذي اهتدى به مصمموا الطائرة والسفينة، فكذلك يجب أن يكون جسد الإنسان هـو النموذج الذي يهتدي به تنسيق العمل الإسلامي ودائرة التنظيم المقترحة. فكما تحتل غدد الإفراز الموجهة، كالقلب والدماغ والرئتين والكلى والبنكرياس، أحصن المواقع في الجسد، [ ص: 158 ] وأخفاها حتى عن بصر صاحب الجسد نفسه، وتقوم بوظائف بعث الحياة في الجسد، وتوجيه أنشطته، وتنقيته مما يؤذيه، كذلك يجب أن يحل العلم الإسلامي - علماءه ومفكريه، أو أولو الأمر فيه - أحصن المواقع وأخفاها حتى عن عناصر العمل الإسلامي نفسه، ليقوموا في مواقعهم الحصينة، بوظائف ثلاث، الأولى: تطوير المثل الأعلى اللازم لكل جيل من أجيال العاملين لإخراج الأمة المسلمة وعافيتها.

والثانية: رسم الخطط والاستراتيجيات. والثالثة: التقويم والمراجعات والتزكية من المعوقات..

فالعمل الإسلامي لديه الخبرة الكافية - إن كان يعقل - عن سياسات حكماء مترفي قرية الكرة الأرضية، إزاء الرؤوس المفكرة المسلمة، وإبطال فاعلية العمل الإسلامي، وإيقاف حركته أو فساد مسيرته.

ويمكن أن نمثل لدائرة التنظيم المقترحة بالرسم التالي:



هذه بعض التوصيات التي لا تعدو أن تكون ميراث ومنبهات للذين سوف يرشحهم الله لإخراج الأمة المسلمة من جديد، فلعلها تساعدهم على أداء فرض الله في العمل الجماعي، وتجسيد ( قوله صلى الله عليه وسلم يد الله مع الجماعة. ) [ ص: 159 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية