الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مظاهر النصرة

يتحقق عنصر النصرة في حياة الأمة المسلمة من خلال المظاهر التالية:

1- نصرة أفكار الرسالة الإسلامية في مواجهة طغيان الأشخاص وزخرف الأشياء ، وتفصيل ذلك كالتالي: [ ص: 85 ]

يتكون كل مجتمع من ثلاثة عناصر رئيسة هـي: الأفكار والأشخاص والأشياء؛ وتكون الأمة في أعلى درجات الصحة حين تكون نصرة الأفكار هـي المحور الذي يدور في فلكه " الأشخاص والأشياء " ؛ ففي هـذه الحالة يخلف " أشخاص " المؤمنين الرسول في نصرة أفكار الرسالة، فتظهر " الخلافة " وتتحدد مواقع الأفراد ووظائفهم طبقا لمقياسين، الأول: مدى القدرة على حمل الرسالة، أي فقهها وتطبيقها. والثاني: مدى الإخلاص في هـذا الحمل. والقرآن يطلق على كل من القدرة والإخلاص اصطلاحي: القوة والأمانة. وذلك عند قوله تعالى: ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) [القصص:26]. وفي آية أخرى يسميها: التمكين والأمانة، وذلك عند قوله تعالى: ( إنك اليوم لدينا مكين أمين ) [يوسف:54]. والقوة هـنا تعني " الجدارة " وهي شاملة ذات مظاهر عديدة؛ ففي في ميدان الحكم تدور حول الحكم بالعدل، كما دل عليه القرآن والسنة، وحول القدرة على تنفيذ الأحكام. والقوة في ميدان العسكرية تدور حول شجاعة القلب، والخبرة العسكرية.. وهكذا في بقية ميادين الحياة، كالتربية والإدارة، والاقتصاد، والصناعة، وغيرها.

أما الأمانة فتدور حول الولاء الذي من أجله تبذل القدرة: أهو لأفكار الرسالة أم للأشخاص، أم للأشياء؟!

ويتسرب الخلل إلى عنصر " النصرة " حين تطغى نصرة " الأشخاص " على نصرة " الأفكار " . والتطبيقات العملية لهذا الطغيان تتمثل في امتلاك أصحاب العصبيات الأسرية، أو القبلية، أو الطائفية، أو العرقية، أو الإقليمية، للأفكار والأشياء. ثم توظيفهما معا لدعم مكانة أشخاص العصبيات ونفوذهم. وتتحدد مراكز الأفراد ووظائفهم طبقا لمدى استعمالهم لصفتي القوة والأمانة في خدمة هـذه العصبيات. وهذا ما حذر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -  منه يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -  كما روى ذلك يزيد نفسه فقال: ( قال أبو بكر لما بعثني إلى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسى أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك. فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قال: من ولي من أمور المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا، محاباة له بغير حق، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم، ومن أعطى أحدا من مال محاباة فعليه لعنة الله. أو قال: برئت منه ذمة الله. إن الله دعا الناس أن يؤمنوا فيكونوا حمى الله. فمن انتهك في حمى الله شيئا بغير حق فعليه لعنة الله. أو قال: برئت منه ذمة الله عز وجل ) " [1] [ ص: 86 ]

ومن هـذا الهدي النبوي الراشدي، استوحى ابن تيمية آراءه في هـذا الشأن فقال: فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة، أو صداقة، أو مرافقة في بلد، أو مذهب، أو طريقة، أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، فيما نهى الله عنه في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) [الأنفال:27] ثم قال: ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) [الأنفال:28]. فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه مالا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته "[2] ولما كانت " الأشياء " وما تجسده من مال وزخارف الحياة المادية، هـي الوسيلة الرئيسة التي يستعملها " أشخاص " العصبيات للحصول على النصرة، فإنه سرعان ما تصبح نصرة " الأشياء " هـي المحور الذي تدور في فلكه " الأفكار والأشخاص " ، وتصبح الهيمنة في الأمة لأرباب المال، والتجارات، وصانعي الشهوات، وتسود ثقافة الاستهلاك والترف، وتتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية، وتصبح الأفكار والقيم بعض سلع التجارة، ومواد الاستهلاك الدعايات السياسية والاقتصادية، ويتوقف التفكير الموضوعي، ويحل محله الهوى، وتتحدد ميادين التربية بحدود هـذه الثقافة الاستهلاكية، وينشغل الناس بأشيائهم وحاجاتهم اليومية، ويعودون كالجاهلية هـمة أحدهم لا تتعدى بطنه وفرجه، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، وتكون المحصلة النهائية لهذا التحول هـو السعي لامتلاك الأشياء " ، فتظهر ظاهرة الملك القسري، أي الذي يتوصل إليه بالقسر والعنف، والانقلابات الدموية والفتن.

ويلخص الحديث النبوي هـذا التطور السلبي من " نصرة أفكار " الرسالة حتى " نصرة الأشياء " عند قوله : ( إن هـذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلون الحرير والفروج، ويرزقون على ذلك وينصرون ) [3] والمجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة، تتفوق على تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كانت حال الأمة المسلمة في صدر الإسلام، وتفوقها على مجتمعات الرومان وفارس وغيرها.. ولكن المجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، أو التي [ ص: 87 ] يختلط فيها الصحيح والخاطئ، فهذه تتفوق على المجتمعات التي تدور في فلك الأشخاص والأشياء، وتهزمها كما هـو الحال الآن في تفوق المجتمعات الغربية على مجتمعات العالم الثالث، ومنه العالم العربي والإسلامي الحديث.

والشكل الذي تنتظم طبقا له عناصر الأفكار والأشخاص والأشياء، يحدد نوع التربية وتطبيقاتها، في الثقافة والعلوم، ونظم الحياة المختلفة؛ فعندما تكون الأفكار هـي المحور الذي يدور في فلكه الأشخاص والأشياء، فإن التربية تتخذ مثلها الأعلى وخبراتها التي تضمنها مناهجها وتطبيقاتها من ميدان الأفكار، ودرجة الترام الأشخاص بها، وتجسيد الأشياء لها، في الماضي والحاضر والمستقبل، ويكون من ثمار التربية بناء حضارة تدور حول تطبيقات الأفكار، وتجسيدها في مسيرة الاجتماع البشري.

أما حين يحتل الأشخاص مركز المحور الذي تدور في فلكه الأفكار والأشياء، فإن التربية تتخذ مثلها الأعلى وخبراتها التي تضمنها مناهجها وتطبيقاتها، من ميدان الأشخاص، ومدى فاعلية قوتهم في الماضي والحاضر والمستقبل، واستعمال الأشياء لتنفيذ إرادتهم.

وأما حين تكون الأشياء هـي المحور الذي تدور في فلكه الأفكار والأشخاص، فإن التربية تتخذ مثلها الأعلى وتنتقي خبراتها المنهجية، وتطبيقاتها العملية، من ميدان الأشياء وتاريخها وحاضرها ومستقبلها، ومدى تأثيرها في عالم الأفكار والأشخاص على المستوى المحلي والعالمي، ويكون من ثمار التربية: بناء حضارة مادية تدور حول تطبيقات الأشياء وتجسيدها في مسيرة الاجتماع البشري. وهذه هـي حالة التربية الحديثة التي يدور محور النصرة فيها حول الأشياء، كما أن العلوم والثقافات والآداب والفنون التي أفرزتها وتفرزها هـي أيضا تتخذ مثلها الأعلى وتنتقي خبراتها من الدوران في فلك الأشياء، في حين يدور كل من الأفكار والأشخاص في فلك الأشياء، ويستثمران من أجل توفير الأشياء وتحسينها. والتجسيد العملي لهذا كله هـو حضارة الإنتاج والاستهلاك، التي يقودها الغرب المعاصر، وتؤثر في العالم كله.

2-  نصرة العدل في مجابهة الطغيان والتسلط

ويمثل هـذا المظهر محور عنصر النصرة، بل هـو جوهرة وغايته؛ لأن العدل في حقيقته تجسيد لأفكار الرسالة ومثلها وقيمها، وبقائها المحور الذي يدور في فلكه الأشخاص والأشياء. أما الظلم فحقيقته أن تندحر الأفكار والمثل والقيم، من محور الاجتماع البشري إلى هـوامشه، لتدور في فلك أهواء الأشخاص الأقوياء، الذي يهيمنون على محور الاجتماع البشري، ويديرون الأفكار والأشياء في فلكهم، لبقاء سلطانهم ودوام تملكهم. فالعدل إذن هـو روح شبكة العلاقات الاجتماعية الذي يمنحها الحياة والبقاء، وغياب العدل يلغي مبرر وجود الأمم (ومنها الأمة الإسلامية) ولذلك [ ص: 88 ] قال أبو الحسن الخزرجي : الملك مع العدل والكفر يدوم، ولكن الملك مع الإسلام والظلم لا يدوم. وجيوش الفتح الإسلامي حين خرجت إلى العالم، إنما خرجت لرفع الظلم عن الشعوب، أما اعتناق الإسلام، فقد تركته لاختيار الشعوب المحررة، لتتبين وحدها الرشد من الغي، دون إكراه في الدين، ولتختار واحدا من اثنين: إما الإسلام، وإما الجزية التي تسوي غير المسلم بالمسلم، الذي يدفع الزكاة ويخدم في الجيش لحماية الجميع من الظلم.

لذلك تضافرت مصادر التربية الإسلامية على إدانة الظلم، وتنفير المسلم منه في جميع مظاهره وأشكاله. فالقرآن يسوي بين مصير المظلومين الذين يسكتون على الظلم، وبين الظالمين الذين يمارسون الظلم: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) [النساء:97]. وفي المقابل يشيد القرآن بالذين يرفضون الظلم، ويتناصرون لمقاومته، ويستنهض هـممهم لمنازلته: ( والذين إذا أصابهم البغي هـم ينتصرون * وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ) [الشورى:39-42].

والرسول  صلى الله عليه وسلم يجعل خنوع الأمة، وعدم تناصرها لمقاومة الظلم من العلامات الدالة على موتها، وانتهاء مبررات وجودها: ( إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت ظالم، فقد تودع منها ) [4] ويقول أيضا: ( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تكون العامة تستطيع تغير على الخاصة، فإذا لم تغير العامة على الخاصة، عذب الله العامة والخاصة. ) [5] وكان من ثمار هـذه التربية في عصر النبوة أن قامت روابط النصرة في مجتمع الراشدين على تعشق العدل والتضحية في سبيله، وصارت طاعة الحاكم مرهونة بمدى تقيده بالعدل واحترام الحريات. " كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في مجلس وحوله المهاجرون [ ص: 89 ] والأنصار ، فقال: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا، فقال ذلك مرتين أو ثلاثا. فقال بشر بن سعد: لو فعلت ذلك قومناك تقويم القداح -أي السهم- فقال عمر: أنتم إذا، أنتم إذا. " [6] أي أنتم إذن الرجال الممثلون للأمة المسلمة الحقة.

ولم يكن هـذا موقفا نادرا أو موقوتا في سياسة عمر - رضي الله عنه -، بل إن جميع مواقف عمر كانت من جنس هـذا الموقف؛ لأن عمر لم يكن حاكما فقط، وإنما كان مربيا يرسي تقاليد ثقافة جديدة في السياسة والاجتماع والاقتصاد، ويريد لهذه الثقافة أن تتحدر في تاريخ الأمة، وفي أعرافها، وقيمها، ونظمها، وتقاليدها، وأن يصبح العدل والحرية محور هـذه الثقافة. وحقا إنه كان في ذلك عبقريا لم يفر فرية عبقري آخر في الإسلام.

3- نصرة الحرية في مجابهة الاستعباد

وهذا المظهر من مظاهر النصرة، يمثل محور عقيدة التوحيد، ويجسدها في واقع اجتماعي، يصهر الفروق بين الأفراد والجماعات، ويقضي على الفروق الطبقية التي يمكن أن تتحول إليها درجية المسئولية الاجتماعية. ولذلك كان غياب الحرية في حقيقته هـو غياب التوحيد؛ لأن حقيقة التوحيد أن لا يخشى الإنسان الموحد إلا الله، وغياب الحرية معناه خشية غير الله. ولقد فسر الطبري قوله تعالى: ( يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) [النور:55] أن معنى ( لا يشركون بي شيئا ) هـو: أنهم لا يخافون غيري من جبابرة السلاطين والأشخاص [7] وهذا يضع على التربية الإسلامية مسئولية كبيرة في تنمية تعشق الحرية ونصرتها، والغيرة عليها، والدفاع عنها إذا انتهكت، كالغيرة على الأعراض والحرمات. ويتفرع عن ذلك تنمية الوعي بقيمة التعبير عن الرأي؛ لأن الأمة التي يوجهها عنصر النصرة أمة تدرك قيمة النقد الذاتي - أو التوبة حسب التعبير الإسلامي - وأثرة في دوام صحتها وعافيتها، فلا تتراكم آثار الممارسات الخاطئة، حتى تنفجر في فتن مدمرة، تأتي على كيان الأمة دفعة واحدة. ولا بد للتربية الإسلامية أن تدرب متعلميها على ممارسة كلا من حرية الرأي والنقد الذاتي، بحيث تنطبق عليها المواصفات التي توجه إليها أمثال قوله تعالى: ( وقولوا للناس حسنا ) [البقرة:83]، ( وجادلهم بالتي هـي أحسن ) (النحل:125]، ( وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ) [8] [النساء:63]. وبذلك لا يتحول النقد أو التعبير إلى [ ص: 90 ] سباب ومهاترات، تزرع الأحقاد وتبذر الفتن، وإنما يقوم على تشخيص الظواهر الاجتماعية، وتحليل مقدماتها ونتائجها بغية التعرف على الممارسات والمسارات الخاطئة للتوبة منها، واكتشاف الصحيحة للرجوع إليها.

ونحن نلمح في طريقة نزول الوحي، ما يشجع على ظاهرة التعبير عن الرأي الرفيع، والتساؤل البناء، فحينما تساءلت نسيبة بنت كعب - المشهورة بأم عمارة، وصاحبة المواقف البطولية في أحد وحروب الردة - فقالت: يا نبي الله، مالي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرن؟ فأنزل الله تعالى: ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) [الأحزاب:35].

ومع اعتقادنا الراسخ بكمال العلم الإلهي، إلا أننا نرى في مناسبة الآية واستجابة الوحي لطلب نسيبة وأخواتها، بعض مظاهره الحكمة الإلهية، التي شكلت الأحداث، لتعلم جيل الصحابة والأمة المسلمة درسا في التعبير عن الرأي، وأهميته، ولو كان الذي يعبر عن رأيه امرأة، ولو كان الموضوع الذي يدور حوله التساؤل هـو أسلوب الوحي!! فإذا كان الأمر كذلك فليس هـناك من بني البشر من هـو فوق التساؤل والنقد الإيجابيين!!

وعلى هـذا النهج سارت الحياة في المجتمع النبوي والعهد الراشدي؛ " فحين تولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخلافة مثلا، كتب إليه أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهم - من الشام رسالة مشتركة يذكرانه بالمسئولية التي عهدت إليه، ويحذرانه مغبة القصور عنها. ومما جاء فيها: أصبحت وقد وليت أمر هـذه الأمة، أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل؛ فأنت كيف أنت عند ذلك يا عمر، فإنا نحذرك يوما تعنى فيه الوجوه، وتجف في القلوب، وتقطع فيه الحجج بملك قهرهم بجبروته، والخلق داخرون له، يرجون رحمته ويخافون عقابه " . وتلقى عمر الكتاب فلم تأخذه عزة السلطان، وإنما شكر لهما النصيحة والتواصي، وكتب يطمئنهما إلى ما أوصيا به، ثم أضاف: " كتبتما به نصيحة تعظاني بالله أن أنزل كتابكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما، فإنكما تكتبان به وقد صدقتما، فلا تدعا الكتاب لي، فإني لا غنى بي عنكما، والسلام عليكما " [9] [ ص: 91 ]

وكما أسلفنا، فإن أمثال عمر لم يتعدوا أصابع اليد في تاريخ الإسلام، لذلك فإن من ضمانات مبادئ الحرية والعدل التي أراد عمر إرساءها واستمرار نصرتها، أن لا تترك هـذه المبادئ إلى ورع الحاكم وأخلاقه، بل تحرس بالتشريع وبالمؤسسات، وأن لا يكون هـناك سلطة فردية مطلقة، وفردية التصرف معناها: العصمة من الخطأ. والعصمة معناها: عدم النقد، بل تحريمه وتجريمه. وعدم النقد معناه: تشجيع الحاكم على الطغيان. وبقاء الطغيان والظلم مدى الحياة معناه: أن لا تجد الأمة سبيلا للتخلص من الطاغية إلا بالانقلابات، والثورات الدموية، والفتن المدمرة، التي تنتهي إلى مرض الأمة وموتها.

ولتجنب هـذه السلسلة من السلبيات والمضاعفات المهلكة، لا بد للتربية الإسلامية من التشريعات وبناء المؤسسات، وتقنين القيم السياسية، وأن ترفع انتخاب الحاكم وتقنين القيم السياسية وجماعية القيادة إلى مرتبة فروض الدين؛ لأن هـذا ما توجه إليه روح الشورى، التي يوجه إليها القرآن الكريم وتطبيقات السنة، وهذا ما فهمه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال: " لا خلافة إلا عن مشورة " [10] 4- نصرة مؤسسات الإدارة والأمن والجيش للإنسان المسلم في مواجهة أشخاص المتسلطين وأشياء المترفين

وحتى تتجسد أفكار النصرة في واقع اجتماعي يعيشه الناس، لا بد أن يتركز عمل مؤسسات الإدارة والأمن والجيش حول الحفاظ على إنسانية الإنسان المسلم، وصيانة حرماته، وتحقيق ذاته في الداخل، ثم تمكينه من حمل رسالة الإسلام إلى الخارج.

ولتحقيق هـذه الغاية، يؤكد القرآن الكريم بصراحة وقوة على عدم النيل من إنسانية الإنسان أو التجسس عليه، أو اضطهاده، أو نفيه، أو غيبته، أو امتهان كرامته، وتهديد من يرتكب مثل هـذه الجرائم بأشد أنواع العذاب في الدنيا والآخرة.

والرسول  صلى الله عليه وسلم يؤكد ذلك بنفس الحجم والكم تقريبا، فهو يجعل التجسس على الناس سببا في إفسادهم: ( إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ) [11] ( وعن معاوية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم؛ أو كدت تفسدهم. ) [ ص: 92 ]

" فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : كلمة سمعها معاوية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفعه الله بها " [12] والعقوبة يجب ألا يكون باعثا الحقد الشخصي، ولا القسوة على الإنسان في حالة مخالفاته، وإنزال القصاص به، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ) [13] ( إن الله تعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا ) [14] ( ويقول أيضا: صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس... ) [15] ( أول من يدخل من هـذه الأمة النار، السواطون ) [16] والسواطون هـم: رجال الأمن، الذين يحملون الأسواط يضربون بها الناس.

ويقول أيضا: ( إن أشد الناس عذابا يوم القيامة أشدهم عذابا للناس في الدنيا ) [17] ( يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما في أيديهم مثل أذناب البقر يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله ) [18] ( يكون في آخر الزمان شرط، يغدون في غضب الله، يروحون في سخط الله، فإياك أن تكون منهم. ) [19] والسجن الإسلامي يختلف عن السجن غير الإسلامي، بحيث يتطابق مع احترام الإسلام لإنسانية الإنسان، ويحافظ على كرامته، وفي ذلك يقول ابن تيمية : الحبس الشرعي ليس السجن في مكان ضيق، وإنما هـو تعويق الشخص،ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو بتوكيل نفس الخصم، أو وكيل الخصم عليه، ولذلك سماه الرسول  صلى الله عليه وسلم أسيرا [20] [ ص: 93 ]

ولقد برزت آثار التوجيهات التي عمقتها التربية النبوية في جيل الصحابة والراشدين، فاتخذوها دستورا في مؤسسات الإدارة والشرطة والجيش، الموكلة بالحفاظ على النصرة في الداخل والخارج. " فقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا بعث عماله شرط عليهم أن يعيشوا معيشة الناس، وأن يركبوا ما يركبه عامة الناس، وأن يلبسوا ما يلبسه عامة الناس، ثم يشيعهم، فإذا أراد أن يرجع قال: إني لم أسلطكم على دماء المسلمين، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم، ولكني بعثتكم لتقيموا الصلاة، وتقسموا فيهم فيئهم، وتحكموا بينهم بالعدل، فإذا أشكل عليكم شيء فارفعوه إلي، ألا فلا تضربوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها فتفتنوها، ولا تعتلوا عليها فتحرموها، جردوا القرآن " [21] " ولقد خطب عمر - رضي الله عنه -  يوما في الناس فقال: ألا وإني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، والذي نفسي بيده، إذا لأقصنه منه! فوثب عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فقال: أمير المؤمنين، أو رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصه منه؟ قال: أي والذي نفس عمر بيده إذا لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص من نفسه، ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوا حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوا الغياض فتضيعوهم. " [22] واعتماد هـذه المبادئ الإسلامية في تشكيل عمل مؤسسات النصرة التي مر ذكرها يتطلب أمور ثلاثة:

الأول: أن تنفرد التربية الإسلامية في إعداد العاملين في هـذه المؤسسات، وعدم تركهم للإعداد في المؤسسات الإدارية والبوليسية والعسكرية القائمة في ديار الغرب، لتكون محصلة إعدادهم في تلك المؤسسات رهقا وإرهابا لأممهم ومجتمعاتهم في الداخل، وعجزا مذلا أمام العدوان النازل بها من الخارج. [ ص: 94 ]

والثاني: أن تختلف الإجراءات التي تمارسها هـذه المؤسسات، والعقوبات التي تطبقها لإمضاء قوانين النصرة، وتشريعاتها، عن نظائرها من المؤسسات غير المسلمة، إذ لا يجوز أبدا تقليد المؤسسات الأخرى، واستيراد أساليبها، أو التدرب في معاهدها على نظم البوليس وأساليب المخابرات، وإجراءات التحقيق والعقوبات؛ لأن المؤسسات غير الإسلامية تتعامل مع الإنسان انطلاقا من فلسفة " الدراونية الاجتماعية " ، التي تقرر أن البقاء للأقوى، واستنادا إلى نظريات علم النفس المشتقة من التجارب على الحيوان، كنظرية " بافلوف " ونظرية التعلم الإشراطي لـ " سكنر " ، التي تستعملها الكثير من دوائر الشرطة والمخابرات في غسل الأدمغة وانتزاع الاعترافات.

والثالث: أن يتم تأسيس التربية العسكرية على الأصول الإسلامية التي تعد العسكرية المسلم ليدور حول أفكار الرسالة، لا في فلك أشخاص الحاكمين وأشياء المترفين.

وأهمية هـذه التربية لا يمكن هـنا الخوض في تفاصيلها، وإنما يمكن تصورها من المثل الذي لم يحدث له نظير في تاريخ الجندية، حنيما أنزلت رتبة عسكري كخالد بن الوليد - رضي الله عنه -  من قائد عام للجيش، إلى جندي نفر، ثم استمر في أداء واجبه قائلا: " أنا لا أقاتل من أجل عمر!!. "

ويرتبط بهذا المظهر للنصرة تنمية الوعي بسيادة الشريعة فوق القوة، وإقامة المؤسسات المتخصصة بمراقبة الحاكمين والإداريين، بحيث لا يكون أحد - كائنا من كان - فوق الشريعة أو القانون، بهما يضبط سلوكهم، وتوجه إدارتهم. وحين يحاول أحد أن يرتفع فوق القانون يقوم تقويم القداح - حسب قول بشر بن سعد للخليفة عمر -، وإذا لم يقوم فإن ذلك يعني أن الصنمية عادت برموز جديدة، والرضى بها من مظاهر الشرك والخضوع لغير الله.

وتحتاج التربية الإسلامية - من أجل تعميق الولاء لاتجاهات النصرة - إلى نقد الممارسات التاريخية التي أطلقت أيدي بعض الخلفاء والسلاطين والولاة - بعد عصر الراشدين - في شئون الحكم والمال والإدارة، فصاروا يعزون من يشاءون في أعلى المناصب، ويذلون من يشاءون بالعزل والاضطهاد، ويحيون من يشاءون بالعفو المزاجي، ويميتون من يشاءون بالإرادات الطاغية، وبذلك شاركوا الله في صفاته وأفعاله، وجسدوا صنمية الأنداد!

وتحتاج التربية الإسلامية كذلك إلى نقد قيم العصبيات وثقافاتها، التي تصطدم بالنصرة، فتجعل القوة فوق القانون، وتحيل حقوق الناس الممنوحة لهم من الله مكرمات، يمن بها عليهم أصحاب السلطان الأنداد، وتطلق أيد المنفذين ليستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وليتحكموا بمصائرهم وأرزاقهم ومقدراتهم، دون رقابة من مؤسسة، أو مسئولية أمام تشريع. [ ص: 95 ]

ولا شك أن نقد التربية لهذه الثقافة العصبية المتخلفة، هـو واجب ديني، والتخلي عن هـذا الواجب أو القصور فيه والسماح لهذه الثقافة أن تشيع في مناهج التربية وبرامج الإعلام، هـو كبيرة من الكبائر المخلدة في النار، كما ذكر ذلك صراحة في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أورد الكبائر السبع، وذكر أن سابعتها: " وأن يرتد أعرابيا بعد الهجرة " [23] 5- نصرة الأمة المسلمة في مواجهة طغيان الفرد أو الأقلية

وأساس هـذا المظهر أن الأمة التي توجهها روح النصرة، لا تسمح للفرد أو الأقلية أن تغلب مصالحها الخاصة على الصالح العام، ولتحقيق هـذا المظهر لا بد للتربية الإسلامية أن تركز على رسوخ ثلاثة اتجاهات رئيسة هـي:

الأول: تنمية الوعي بقيمة وحدة الأمة المسلمة والمحافظة عليها بكل الوسائل، ويتفرع عن وحدة الأمة: وحدة القيادة، ومحاربة نزاعات السلطة المستمدة من الولاء الفردي، والعصبيات العائلية، والقبلية، والإقليمية، والمذهبية، والقومية، وكل ما يعرض كيان الأمة للفتن والانقسامات. " وهذا ما فهمه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -  حين قال: وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران، فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم وأحكامهم، وتتفرق كلمتهم وجماعتهم، ويتنازعون فيما بينهم، هـنالك تترك السنة وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة، وليس لأحد على ذلك صلاح " [24] وحين اقترح أحد الأنصار في سقيفة بني ساعدة أن يكون للمسلمين خليفتان في آن واحد، وقال للمهاجرين: منا رجل ومنكم رجل. أجابه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " سيفان في غمد واحد إذا لا يصلحان " [25] والثاني: تنمية الوعي بأهمية العمل الجماعي، وسيادة مبدأ الشورى؛ لأن في الشورى تجسيدا لإرادة الأمة، وإشراكا لجميع أفرادها وهيئاتها في حمل المسئولية. وهو ما طبقه الرسول  صلى الله عليه وسلم وسار عليه الخلفاء الراشدون، فقد كان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -  إذا ما ورد على أحدهما أمر، نظر في الكتاب والسنة، ثم شاور العلماء وأولي الرأي [26] والثالث: تكافؤ الفرص، وعدم محاباة الأقارب والأصدقاء، وتوزيع الوظائف والأعمال طبقا لمقاييس الإخلاص والكفاءة، وهذا ما وجه إليه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ؛ فعن يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنه [ ص: 96 ] - ( قال أبو بكر: لما بعثني إلى الشام؛ قال: يا يزيد إن لك قرابة عسى أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ولي من أمور المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة له بغير حق، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم، ومن أعطى أحدا من مال أخيه محاباة له فعليه لعنة الله - أو قال برئت منه ذمة الله - إن الله دعا الناس أن يؤمنوا فيكونوا حمى الله، فمن انتهك في حمى الله شيئا بغير حق فعليه لعنة الله - أو قال: برئت منه ذمة الله عز وجل ) [27]   6-  نصرة رجال الفكر وجمهور الأمة من مواجهة رجال القوة والتسلط

يرتبط هـذا المظهر بنصرة أفكار الرسالة ارتباطا وثيقا، وهو من أهم ميزات الأصول السياسية للتربية الإسلامية، فالقرآن الكريم يحدد دور رجال الفكر ورجال القوة في أكثر من موضع، من ذلك قوله تعالى: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [النساء:59].

ولقد قدم الرازي وابن تيمية عرضا مطولا لتفاسير علماء الصحابة وتلامذتهم لمعنى (وأولي الأمر) وخلصا إلى أن هـذه التفاسير تنقسم إلى قسمين: قسم جعل " أولي الأمر " هـم: العلماء والأمراء، وهو رأي الأقلية. وقسم جعلهم العلماء وحدهم، وهو رأي الأكثرية [28] وعلى كل حال، فالعلماء أو رجال الفكر، موجودون في تعريف كلا الطرفين،ولهم الصدارة والأولوية، وهذا هـو الذي ينسجم مع نصرة الرسالة، وضرورة دوران الأشخاص والأشياء في فلك الأفكار كما مر.

كذلك يقدم القرآن الكريم أمثلة لما يجب أن تكون عليه مكانة رجال الفكر وجمهور الأمة، ولقد ناقش ابن تيمية هـذه المكانة، وذكر أنها مما يوجه إليه قوله تعالى: ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) [المائدة:55]، ( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هـم الغالبون ) [المائدة:56] ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) [المنافقون:8]. وفي التشهد: [ ص: 97 ]

" التحيات لله، والصلوت والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " .

فالإشارة هـنا لله ورسوله، إشارة إلى القائمين على فقه الكتاب والسنة والتربية عليهما، والإشارة إلى الذين آمنوا إشارة إلى جمهور الأمة المسلمة.

" ويضيف ابن تيمية : أن هـذه الأصول هـي التي أمر بها عمر بن الخطاب شريح - رضي الله عنهما -  حيث قال: " اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس " وفي رواية: " فبما قضى به الصالحون " .

" وكذلك يقول ابن مسعود - رضي الله عنه - : " من سئل عن شيء فليفت بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس " . وكذلك روى نحوه ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره، ولذلك قال العلماء: الكتاب والسنة والإجماع [29] كذلك يقدم القرآن الكريم أمثلة لما يجب أن تكون عليه معادلة العلاقة بين رجال الفكر وجماهير الأمة ورجال القوة، وتحديد أدوار كل فريق منهم. من ذلك قوله تعالى: ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) [النساء:83].

هكذا تتوزع الأدوار إذا واجهت الأمة قضية من قضايا الأمن أو الخوف، أو شأنا من شئون الحرب أو السلم؛ فالحس الجماهيري هـو الأداة القادرة على استشعار القضايا، أو المشكلات؛ لأن الجماهير هـي التي تتفاعل على مسرح الحياة الاجتماعية، ولها حق التعبير والإعلان عنها، ولكن ليس باللغو وإذاعة الإشاعات، وإنما بأداء دورها في دائرة فاعلة، دائمة الجريان، حيث تبدأ الجماهير برد القضايا والمشكلات إلى أولي الأمر من العلماء الأمراء (وهم هـنا خلفاء الرسول  صلى الله عليه وسلم ) ، ليردوها بدورهم إلى المتخصصين القادرين على علمها واستنباط وسائل معالجتها. ويمكن أن نمثل لهذه الدائرة الفاعلة في معالجة المشكلات والقضايا بالشكل التالي:



[ ص: 98 ]  

ولقد أدرك ابن تيمية هـذه العلاقة التي تنظم أدوار رجال الفكر ورجال القوة، وأسهب في وصف تطبيقاتها وتطوراتها في الأمة الإسلامية، ومما قاله في هـذا الشأن: قال الله تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) [الحديد:25] [30] . فقوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر: ( وكفى بربك هـاديا ونصيرا ) [الفرقان:31]. ودين الإسلام أن يكون السيف تابعا للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة،  وكان السيف تابعا لذلك كان أمر الإسلام قائما.. وأما إذا كان العلم بالكتاب، فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب، وتارة يخالفه، كان دين من هـو كذلك بحسب ذلك " [31] فابن تيمية يرمز لرجال القوة بالسيف، تمشيا مع وسائل تكنولوجيا القوة في عصره، بينما يشير القرآن لها بالحديد، المادة الأساسية لتكنولوجيا القوة في كل عصر.

ولقد كان عصر النبوة والخلافة الراشدة تطبيقا للمعادلة القرآنية بين رجال الفكر، وجمهور الأمة، ورجال القوة؛ فقد كان فقهاء الرسالة يتصدرون مواقع الإمامة في الأمة، ابتداء من إمامة الصلاة، حتى إمامة المجتمع كله. ومن المعروف جيدا أن الخلفاء الراشدين كانوا أعظم فقهاء الرسالة - بعد الرسول صلى الله عليه وسلم - وأنهم لولا انشغالهم بشئون السياسة وتسيير جيوش الفتح الإسلامي، لتركوا مجلدات مبتكرة في أصول الفكر الإسلامي بميادينه المختلفة.

ولقد كان صلى الله عليه وسلم دائم التحذير من اختلال المعادلة التي أرساها بين رجال العلم، وجمهور الأمة، ورجال القوة، ومن خطورة هـذا الاختلال على مستقبل الأمة المسلمة من ذلك قوله: ( خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة في الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه يمنعكم الفقر والحاجة، ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم . قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى بن مريم نشروا بالمناشير [ ص: 99 ] وحملوا على الخشب موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله. ) [32] ومن الموضوعية أن نقول: إنه بعد مجتمع الخلفاء الراشدين، اضطربت معادلة العلاقة بين رجال الفكر والتربية، وبين رجال القوة، ودخل الطرفان في صراع انتهى بتغلب رجال القوة والسلطان. ولكن الحديث في تفاصيل هـذا الموضوع يقع في دائرة البحث في تاريخ التربية الإسلامية، وهو موضوع خارج عن نطاق هـذا البحث.

وفي العصر الحديث، تدرب مؤسسات التربية في العالم الإسلامي الحديث على أن شخصا واحدا هـو شخص المعلم - الذي يتقمص فيما بعد شخص الحاكم من أولي القوة - هـو القادر على استشعار المشكلات، والقضايا كلها، وعلى إصدار الحلول الفاصلة القاطعة، التي لا مراء فيها. فالدائرة الاجتماعية هـنا مقطوعة ممنوعة، والتنسيق بين رجال الفكر وجمهور الأمة ورجال القوة غير قائم، وحملة الشهادات وذوي الاختصاص ودور العلم والجامعات مجرد زينة وديكور وطني، يتباهى به رجال القوة ذوي الهيمنة المطلقة أمام الأقطار الأخرى، تماما كالمكتبات في بيوت العالم الإسلامي، تزين بها البيوت، كقطع الأثاث وأدوات الزينة، دون أن يقرأ منها أصحابها صفحة واحدة [33] وفي المقابل نجد أن نظم التربية في الغرب - غير المسلم - قد نسقت أدوار كل من رجال الفكر، ورجال القوة، وهيئات المجتمع، بما يتطابق مع التوجيهات القرآنية التي مرت. فالمشكلات وقضايا الأمن أو الخوف تبدأ في الساحة الجماهيرية، ولكنها لا تترك للغو والإشاعات، وإنما تنقل لأولي الأمر بالاستفتاءات، وجمع المعلومات، والبيانات، والمقابلات، ثم ترد إلى مركز البحوث المتخصصة، حيث ينكب عليها المؤهلون القادرون على تحليلها واستنباط الحلول لها، ثم يردونها إلى أولي الأمر من صانعي القرار، ثم إلى [ ص: 100 ] أجهزة التنفيذ، ثم تقوم بمتابعتها أجهزة القياس والتقويم، لجمع ثمرات التطبيق وتقويم النتائج، وتبدأ الدائرة من جديد.

7-  نصرة الأمة المسلمة في مواجهة العدوان الخارجي

وأساس هـذا المظهر، أن الأمة التي يوجهها روح النصرة لا تسمح للعدو الخارجي أن ينال منها أو من أفرادها ومقدراتها، ولتحقيق هـذا المظهر لا بد للتربية الإسلامية أن تركز على خمسة اتجاهات رئيسة هـي:

الأول: تربية الأمة على الروح العسكرية، وتعشق الجهاد، والتوجيهات النبوية حازمة وراسخة في هـذا الاتجاه؛ فهي تحث على تدريب الناشئة مبكرا مع الحاملات الحربية وأدوات القتال التي رمزت لها بأدوات عصر النبوة المتمثلة في ركوب الخيل، ورمي النبال، واستعمالات السيف، وفنون الفروسية، مع مراعاة الاستمرار في هـذه الأهلية وتعشق الجهاد.

والثاني: إقامة الصناعات الحربية، وتطوير العلوم العسكرية، بما يكفل للأمة الإسلامية التفوق الرادع للأعداء، والرهبة والهيبة أمام الخصوم، وتحقيق النصرة أمام التحديات والأخطار. وهذا مما يوجه إليه بصراحة قوله تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) [الأنفال:60].

والثالث: إقامة مراكز شهود العالم المتخصصة، في البحث ودراسة ما يجري في العالم من تيارات وأحداث في صالح الأمة المسلمة أو ضدها. وذلك لتحديد سياسات التعامل مع هـذا العالم وإيصال الرسالة إليه.. وهذا مما يوجه إليه قوله تعالى: ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ) [الفتح:8، 9]. وهو أيضا ما يرشد إليه ( قوله صلى الله عليه وسلم : رحم الله من حفظ لسانه، وعرف زمانه، فاستقامت طريقته. ) [34] والرسول  صلى الله عليه وسلم كان يشهد الأحداث الجارية بوسائل المعرفة الثلاثة: الوحي، والعقل، والحس. أما وقد انقطع الوحي، فإن على مراكز البحوث والدراسات أن تضاعف من عمل أداتي العقل والحس في شهود ما يجري في العالم، وبدون ذلك لا تكون هـناك استراتيجية صائبة ولا سياسات حكمية. [ ص: 101 ]

والرابع: إقامة مراكز الدراسات الاستراتيجية المتخصصة بتشخيص الشئون المتجددة، ثم النظر في وسائل التكيف مع متطلبات هـذه الشئون ومجابهة التحديات التي ترافقها.

والخامس: إقامة مراكز لدارسة مجتمعات غير المسلمين، وذلك لتحقيق أمرين، الأول: التعرف على أصول هـذه المجتمعات الثقافية والاجتماعية الموجهة لسياساتها وعلاقاتها وسلوكها، وتحديد أساليب التعامل معها، ويقدم القرآن توجيهات واسعة لقراءة عقول غير المؤمنين وإراداتهم ودوافعهم، مما يشكل أصولا لتطوير علوم سياسية إسلامية، وعلم اجتماع إسلامي، وعلم إنسان إسلامي (أنثروبولوجيا) ، وعلوم تتطلب الحاجات المتجددة ابتكارها وبلورة ميادينها، إذ بدون العلم ومناهجه لا يمكن تحقيق أي مظهر من مظاهر النصرة التي قدمنا نماذج لها.

والأمر الثاني: هـو بلورة أصول العلاقات الخارجية مع المجتمعات غير الإسلامية، وتحديد الميادين التي يباح فيها التعاون والصداقة مع هـذه المجتمعات، والمدى الذي يصل إليه هـذا التعاون، والمدى الذي ينتهي عنده. [ ص: 102 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية