الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معنى الجهاد

الجهاد معناه لغويا: بذل الجهد. أما اصطلاحا فهو يعني: استفراغ الطاقة لتحقيق الأهداف التي توجه إليها الرسالة الإسلامية في ميادين: الحياة الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، والعسكرية، وغيرها، في أوقات السلم والحرب سواء. وهذا ما يوجه إليه القرآن الكريم في مواضع كثيرة جدا، من ذلك قوله تعالى: ( وجاهدوا في الله حق جهاده هـو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [الحج:78]. أي أن الجهاد الذي اختاركم الله من أجله، لا ضيق فيه ولا عنت، وإنما هـو يتناسب مع الوسع والطاقة، التي أودعها في خلقكم وتكوينكم [1] والرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسم الإطار الواسع للجهاد من خلال أمرين، الأول: طرح معادلات الجهاد العلمية في ميدان العمل الإيجابي. والثاني: التحذير مما يخالفه في ميدان العمل، والتعوذ مما يعيق عن القيام به من العجز والكسل والمرض، وغلبة الديون وقهر الرجال [2] فالجهاد إذن هـو: تكنولوجيا الإسلام، التي توفر العمل والإنتاج في أوقات السلم، والمنعة في أوقات العدوان. ولكن ليس بقصد توفير الرخاء الاقتصادي، والمنعة السياسية لجنس معين من البشر، أو تحقيق تفوق لقوم على بقية الأقوام، أو توفير امتياز لطائفة دينية [ ص: 52 ] على بقية الطوائف، وإنما لغاية أخرى هـي: تأهيل كتلة بشرية لحمل رسالة الإسلام إلى العالم. ولذلك فالذي تقوم به الأقطار المتقدمة صناعيا وعلميا وإداريا - في الحاضر - هـو جهاد، لكنه بدون رسالة. وبذلك تكون أزمة العالم الحديث هـي: أن هـناك مجتمعات تقوم بالمظهر المادي للجهاد لكن بدون رسالة، بينما ترقد في سبات إلى جانبها مجتمعات تخزن الرسالة في أسفارها، وتستظهر نصوصها في مؤسساتها التربوية، ولكن بدون جهاد لحملها ونشرها.

ولا بد من الانتباه إلى المعنى الحضاري للجهاد، فالجهاد يعكس مفهوم " الأمن الإسلامي " ، الذي يركز على إيصال الرسالة وتبلغها إلى الآخرين، بغية توفير الأمن الفكري والمادي والنفسي لبقاء النوع البشري ورقيه. ذلك أن مصدر الخطر على بقاء النوع البشري ورقيه - حسب التصور الإسلامي - يكمن في القيم التي تكفر -أي تحجب وتخفى- قوانين الخلق في النشأة والمصير، وتقتصر على نوازع التمتع بالحياة وشهواتها، ومن هـذا الكفر تشوه جميع أشكال الاعتقاد والشعور والممارسات في ميادين: السلوك، والاجتماع، والعلاقات، حتى إذا ظهر أهل الكفر في الأرض أشاعوا الفتن والمظالم السياسية والمفاسد الاجتماعية، وردوا شبكة العلاقات الاجتماعية إلى عهود الغاب والهمجية والتخلف.

ولذلك كان طلب بذل النفس لمحاربة قيم الكفر ومؤسساته وممثليه، وبذل المال لنشر قيم الرسالة الإسلامية، وإقامة مؤسساتها، والإنفاق على العاملين والدارسين فيها، حتى يتحقق التفوق للقيم الإسلامية، فيشيع السلام، ويكون الدين كله لله.

وهذا المفهوم الإسلامي للأمن والسلام، يختلف تمام الاختلاف عن مفهوم الأمن القومي، الذي ترفع لواءه المجتمعات المعاصرة، وتتخذه ذريعة لممارسة مختلف أشكال العدوان ضد بعضها بعضا.

وتعريف الجهاد -بالشكل المذكور أعلاه- يجعل ترجمة هـذا المصطلح إلى اللغات الأخرى أمرا صعبا وضارا؛ فهو صعب لأنه لا يوجد ما يقابله في اللغة الأخرى، وهو ضار لأن الترجمة تشوه معناه، كما حدث لترجمته إلى اللغة الإنجليزية، التي أطلقت عليه اسم " الحرب المقدسة Holy War " ، حيث عممت مظهرا واحدا من مظاهر الجهاد، وطمست بقية المظاهر.

ولا بد هـنا من الإشارة إلى أثر تراث ما قبل الإسلام في تطبيقات الجهاد عند الشعوب الإسلامية؛ فالعربي فهم المظهر المرادف لثقافة الغزو الذي كانت القبائل العربية تمارسه قبل الإسلام. والمسلم الباكستاني جذبه المظهر النفسي المشابه لثقافة التقشف الهندوسي، التي كان عليها في جاهليته، وهذا كله من سوء التأويل الذي تتسبب به الموروثات الثقافية السابقة، إذ لم تقم التربية بدورها في الجهاد التربوي الذي يستهدف تزكية مناهج الفهم والتطبيق. [ ص: 53 ]  

التالي السابق


الخدمات العلمية