الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مظاهر الإيواء

 تحتاج التربية الإسلامية إلى تعميق الإحاطة بمظاهر الإيواء حسب متطلبات الزمان والمكان، في ضوء الخطوط العريضة التي يوجه إليها القرآن الكريم، وأهم هـذه الخطوط ما يلي:

أولا: تقدير قيمة الأرض واستعمارها بالطرق التي وجه الله إليها:

يتكرر التوجيه الإلهي في القرآن الكريم إلى أن الأرض من أعظم نعم الله على الإنسان، والقاعدة الأساسية في الاستفادة من هـذه النعمة، أن يجد كل إنسان فيها الإيواء – بمعانيه [ ص: 64 ] الشاملة التي مرت - وأن يعطى الجميع الفرصة لاستعمار الأرض، والانتفاع بها، وأن يجري احتكارها من قبل فئة، أو طبقة، أو شعب، أو عرق معين.. وكل تنظيم للانتفاع بالأرض ومقدراتها يجب أن ينطلق من هـذه القاعدة التي تسعى لتأمين الإيواء في الأرض للإنسانية كلها: ( والأرض وضعها للأنام ) [الرحمن:10]، ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) [هود:61].

ولكن لما كان الإيواء بالمفهوم الذي يطرحه القرآن، لا يمكن فرضه على الإنسانية ابتداء وفي آن واحد، فإن الحكمة الإلهية ركزت على وجوب إخراج جماعة من البشر تدرب على تطبيق هـذا الإيواء، ثم تقدمه نموذجا محسوسا للإنسانية كلها، وهذه الجماعة المشار إليها هـي الأمة المسلمة.

ويتكرر ذكر الأرض في القرآن الكريم في (446 موضعا) ، أما في الحديث الشريف، فقد احتل ذكرها حيزا يصعب عدده، ويمكن تصنيف التوجيهات القرآنية والنبوية المتعلقة بالأرض إلى أربعة، التوجيه الأول: هـو حسن الانتفاع بالأرض، كمكان للإيواء والسكن والاستقرار. والثاني: هـو حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش والغذاء. والثالث: اشتراك الإنسانية كلها للانتفاع بموارد الأرض وخيراتها. والرابع: حسن الانتفاع بالأرض كمختبر من مختبرات المعرفة الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى .

أما تفاصيل هـذه التوجيهات، فهي كما يلي:

1-  حسن الانتفاع بالأرض كمكان للإيواء والاستقرار:

الأساس في الإيواء أن يتوفر لكل إنسان مهما كان لونه أو جنسه أو عرقه، حاجاته في الاستقرار المادي والنفسي، بغية التفرغ لتحقيق حاجة أعلى هـي الحاجة لتحقيق الذات المتمثلة في معرفة الخالق،واستشراف قدرته وطاعته ومحبته، ثم معرفة الحكمة من النشأة والحياة والمصير، ولتحقيق هـذا الهدف خلق الله الأرض للأنام، ووضع في تكوينها كل المقومات والصفات، التي تسهم في الوصول إلى هـذا الهدف وتحقيقه. [ ص: 65 ]

ولتحقيق أسباب الاستقرار المادي، أحسن الله خلق تضاريس الأرض، وجملها، ووفر فيها أسباب الرخاء والراحة، حتى صارت بسهولها وجبالها ومائها وخضرتها وأجوائها والنباتات والحيوانات والطيور التي تزينها، وتجمل الحياة فيها، فراشا ومهدا: ( الذي جعل لكم الأرض فراشا ) [البقرة:22]، ( الذي جعل لكم الأرض مهدا ) [الزخرف:10]، ( والأرض فرشناها فنعم الماهدون ) [الذريات:48].

ولتحقيق أساب الاستقرار النفسي أرسل الله رسله بالتوجيهات التي ترسخ مقومات هـذا لاستقرار وتشيعه.. وتتكون هـذه التوجيهات من قسمين:

الأول: قيم رئيسة كبرى يتفرع عنها قيم فرعية كثيرة ومتنوعة، غايتها إشاعة الصلاح والإصلاح المفضي على الاستقرار، وتجسيد الإيواء في الأرض، وهذه القيم الرئيسة الكبرى هـي:

1- إشاعة العدل وجعله محور العلاقات البشرية، والآيات التي توجه إلى العدل في القرآن والحديث كثيرة جدا، وأساسها أمثال  قوله تعالى: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) [هود:85].

2-التواضع في الأرض واتخاذه أساسا للأخلاق، وأساسه أمثال  قوله تعالى: ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هـونا ) [الفرقان:63].

3- التوسط في إنتاج موارد الأرض واستهلاكها، وأساس ذلك أمثال  قوله تعالى: ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) [الأعراف:31].

والأصل الذي تنبع منه هـذه القيم الثلاث الرئيسة وفروعها الثانوية هـو (معرفة الله) وتوحيده في العبادة والطاعة.

أما عن القسم الثاني من التوجيهات الإلهية، فهي التحذير من منكرات رئيسة كبرى تقابل القيم الكبرى الفاضلة التي مر ذكرها، ومن هـذه المنكرات تنبع جميع أشكال الإفساد في الأرض، ويهدم استقرار الإنسان، وهذه المنكرات الرئيسة هـي:

1-   شيوع الظلم في الأرض وسريانه في العلاقات البشرية، ويتكرر التحذير من الظلم وآثاره المدمرة للاستقرار النفسي والمادي في مواضع كثيرة من القرآن والحديث، ويتفرع عن الظلم مضاعفات ضارة لا حصر لها.

2- التكبر والعلو في الأرض، وما يتفرع عن ذلك من: مضاعفات العصبية، والعدوان، البطش، ولذلك يتكرر الحديث عن آثار العلو في الأرض، وما جره من دمار على الذين اقترفوه، ومن أمثلة ذلك  قوله تعالى: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ) [القصص:4]، ( ثم أرسلنا موسى وأخاه هـارون بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين ) [المؤمنون:45، 46]، ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) [القصص:83]، ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) [الإسراء:4]، [ ص: 66 ]

( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) [الأعراف:146]، ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) [الإسراء:37]، ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا ) [لقمان:18].

3-الإسراف في إنتاج موارد الأرض واستهلاك خيراتها، وما يتفرع عن هـذا الإسراف عن تخريب وإفساد للأرض والبيئة ومصادر نعم الله وإحسانه، ويتكرر التنديد بالإسراف والتبذير، ويرد مقترنا بالعلو في الأرض، ويضع أهله في مصاف الشياطين الذين يرتكز فيهم غضب الله ومقته.

والمصدر الرئيس لهذه المنكرات الثلاث - أو أم المنكر وأشكاله - هـو: الكفر بالله، أو الشرك به، ومعصيته، والتنكر لهديه.

ويتكرر التحذير في القرآن الكريم من مغبة الإفساد في الأرض، ومن محاربة رسالات الله التي تهدف إلى إشاعة الصلاح في الأرض، وتوفير مقومات الإيواء فيها، وحتى لا تكون التوجيهات الإلهية مجرد توجيهات نظرية، كان " إخراج الأمة المسلمة " كطليعة بشرية تتعهد بنشر الإصلاح ومحاربة الفساد في الأرض، وتهيئة الأرض كمكان للإيواء، بمظاهره المختلفة، وتجسيدا للاستقرار النفسي والمادي، الموصل إلى الهدف الكبير: هـدف معرفة الله ومحبته وطاعته ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) [الأنفال:73].

2- حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش والغذاء:

الأرض أعظم مصادر العيش والحياة بدون منازع، ويعتمد مستقبل أية أمة إلى حد كبير على الطريقة التي تستعمل بها الأرض. وحين كان الإنسان يحسن التعايش مع الأرض، كانت الحضارات تقوم، وحين يسيء هـذا التعايش، تنهار الحضارة، وترحل إلى مكان آخر يحسن فيه إنسان آخر التعامل مع الأرض، وهذه قاعدة تنطبق على أكثر من ثلاثين حضارة شاهدتها الأرض [1] والأساس في حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش قاعدتان، الأولى: الإقامة في الأرض حيث تتوفر الحرية، خاصة حرية العبادة: ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) [العنكبوت:56]. أي هـاجروا واستقروا حيث تستطيعون عبادتي عبادة شاملة غير مجزأة.. وعبادة متحررة من الضغوط المادية والنفسية والاجتماعية والفكرية. والثانية: حرية السفر في مناكب الأرض كلها للتجارة والعمل، وإلى هـذه الحرية الثانية يشير القرآن بتعابير " الضرب في [ ص: 67 ] الأرض " و " السعي في مناكبها " ، وتتكرر هـذه الإشارة في كل من سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والمزمل.

ولا يجوز أن يحول بين الناس وبين الضرب في الأرض والسعي في مناكبها والأكل من رزق الله، عوائق التقسيمات الجغرافية، والجنسيات العصبية، وأيدلوجيات العلو والاستكبار، وأخلاق الجشع والإسراف: ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) [الملك:15].

ولا يجوز أيضا أن تقف المعتقدات الدينية حواجز مادية مانعة أمام الانتفاع بمصادر العيش في الأرض، ولذلك حين دعا إبراهيم - عليه السلام -  ربه أن يخص " المؤمنين " من ساكني البلد الحرام بالأمن والثمرات -أي: بنعمة الإيواء الأمني والمعيشي - جاءه الجواب الإلهي أن هـذا الإيواء سوف يتمتع به الكافرون أيضا في فترة الحياة الدنيا القليلة، ثم يجزون على كفرهم في نار الآخرة: ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هـذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ) [البقرة:126].

ومن هـذا المنطق نزل الوحي على  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر أبا بكر أن لا يوقف نفقته على من قذف ابنته عائشة أم المؤمنين ، ويأمر الأنصار أن لا يوقفوا إنفاقهم على القربى والأنسباء من اليهود، الذين لم يستجيبوا للرسالة - كما مر في صفحات سابقة - لأن توفير الإيواء للكافر يهيئ له أن يتفرغ للتأمل في آيات الله، وبراهين قدرته في الآفاق والأنفس.

ويتكرر التوجيهات الإلهية لأن يقوم الانتفاع بالأرض كمصدر العيش على تسميته " أكل الحلال الطيب " ، والتحذير من أساليب الشيطان التي توجه إلى " الحرام الخبيث " : ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) [البقرة:168]، ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) [البقرة:267]، ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) [يونس:59].

وللانتفاع بخيرات الأرض منهجان لا ثالث لهما: فإما منهج الله في " الحلال الطيب " ، الذي يفرز مفاهيم في الاقتصاد تهيئ لجميع الناس الانتفاع الجسدي والنفسي والعقلي، وتشيع التعاون والتكافل بينهم، وتوفر للجميع التمتع (بالطيب) من الغذاء المؤدي إلى [ ص: 68 ] العافية والرخاء. وإما منهج الشيطان في " الحرام الخبيث " الذي يفرز نظريات في الإنتاج والاستهلاك تصيب البشر كلهم بالضنك النفسي والجسدي والعقلي، وتشيع الاستغلال والاحتكار والابتزاز ونهب مقدرات الأفراد والشعوب، لصالح أقليات مترفة، تاركة للأكثرية الرديء - أو الخبيث - من الغذاء الجالب للأسقام، ومضاعفات المجاعات والفتن في الأرض، والفساد الكبير.

ويوجز الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآثار المتبادلة للمنهجين بقوله: ( ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث ) [2] ويفصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - التوجيهات القرآنية المتفرعة من منهج " الحلال الطيب " وتطبيقاتها العملية في أحاديث كثيرة جدا يصعب حصرها، منها ما يلي: ( ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة ) [3] ( مامن رجل يغرس غرسا، إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغراس ) [4] . ( إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسلة فليغرسها ) [5] كذلك يوجه - صلى الله عليه وسلم - إلى وجوب إزالة المعوقات التي تحول دون استثمار الأرض وزراعتها، وأهم هـذه المعوقات احتكار ممن لا يزرعون ولا يعملون: ( من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها، فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه ) [6] ( من كانت له أرض فليزرعها، أو فليحرثها أخاه، وإلا فليدعها ) [7] . ( وعن جابر بن عبد الله قال: نهى  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ) [8] ( وعن نافع أن ابن عمر كان يكري مزراعه، فبلغه أن رافع بن خديج يحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، فدخل عليه وسأله، فقال: كان  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر بعد ) [9] [ ص: 69 ]

ويلحق بالمعوقات التي تحول دون الانتفاع بالأرض: الاستيلاء عليها ظلما، وعدم تمكين الآخرين من الاستفادة منها. والتحذيرات النبوية في هـذا صارمة وحازمة، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( من اقتطع أرضا ظالما، لقي الله وهو عليه غضبان ) [10] . ( من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه، خسف به يقوم القيامة إلى سبع أرضين ) [11] ( من أخذ من الأرض شيئا ظلما، جاء يوم القيامة يحمل ترابها إلى المحشر ) [12] وأبشع أنواع الظلم المعاصر هـو استغلال النفوذ للاستيلاء على الأرض، وتحويلها إلى سلعة تجارية باهظة الثمن، لا يقدر على دفعه إلا من أفنى عمره بالكد القاسي في أرجاء الأرض كلها، من أجل الحصول على مأوى لا يتعدى المائة متر مربع.

ويرتبط بهذه التوجيهات، ضرورة قيام التربية الإسلامية بإعادة النظر في مفاهيم التملك المطلق، التي أشاعتها عصور الملك العضوض، وبررت استيلاء أصحاب القوة والسلطان على الأرض رغم أنهم لا يعملون. والتربية هـنا ملزمة أن تبني أصولها على نصوص القرآن والحديث وتطبيقات السنة وعصر الراشدين، وكل فهم يستبدل فتاوى " علماء السلاطين والخلفاء " في الماضي، أو " علماء السلطة " في الحاضر، بنصوص الوحي والسنة الصريحة في عدلها وإرشادها، فإنما يندرج تحت  قوله تعالى: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) [التوبة:31]. وحينما « سئل - صلى الله عليه وسلم - عن معنى ربوبية الأحبار والرهبان أجاب: أنهم أحلوا الحرام وحرموا الحلال » [13] ولا بد للتربية الإسلامية أن تجتهد في تنمية حب العمل، وجعله من محاور القيم في الأمة، واعتباره الوسيلة الكريمة للعيش الكريم، حتى لا يفسح المجال للوسائل غير الكريمة التي تنال في عصر الإيواء وتفسده.

ولا بد للتربية الإسلامية كذلك أن تنفر من العجز والكسل اللذين عززهما قيم العصبية، التي تحتقر العمل وتجعله من مهام الخدم والعبيد والمستضعفين. فالعجز مبغوض من الله، مدان من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومن أمثال ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله عز وجل ليلوم على العجز، قابل من نفسك الجهد، فإن غلبت فقل: توكلت على الله وحسبي الله ونعم والوكيل " [14] ولا بد للتربية الإسلامية أن تزكي القيم من المفاهيم الخاطئة للزهد، التي عززت الرضى بالفقر، وجعلته من سمات الصلاح والصالحين؛ فالمؤمنون مدعون في القرآن للسعي في مناكب الأرض كلها لجمع المال، فإذا جمعوه بالأساليب المشروعة الكريمة زهدوا به، [ ص: 70 ] فأنفقوه وانتفعوا به، ونفعوا غيرهم بالأساليب المشروعة، التي تحفظ الكرامات، ولا توقع تحت ضغوط الفاقة والحاجة. فهذا هـو مفهوم الزهد الذي وجه إليه - صلى الله عليه وسلم - حين علم أصحابه أن الزهد ليس بإضاعة المال، وتحريم الحلال، وإنما الزهد أن يكون المؤمن أوثق بما في يد الله مما في يده، فيعتدل في جمعه، ويسهل عليه إنفاقه [15] وتتكرر التوجيهات النبوية في هـذا المجال حتى لا تدع مجالا للغموض أو اللبس، من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خيركم من لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلا على الناس " . " من استطاع منكم أن يقي دينه وعرضه بما له فليفعل " . " إن الفاقة لأصحابي سعادة، وإن الغنى للمؤمن في آخر الزمان سعادة " . " يا جابر لا عليك أن تمسك مالك، فإن لهذا الأمر مدة " [16] " يأتي على الناس زمان من لم يكن معه أصفر ولا أبيض، لم يتهن للعيش " . " إذا كان آخر الزمان لابد للناس فيها من الدراهم والدنانير، يقيم الرجل بها دينه ودنياه [17] ولقد وعى فقهاء الصحابة هـذه التوجيهات، وعلموها للشعوب التي خرجت إليها بعوثهم الثقافية، من ذلك ما وجه إليه معاذ بن جبل معلم الشام واليمن حين قال: " يا ابن آدم، أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا، فانتظمها انتظاما. وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة، وأنت من الدنيا على خطر " [18] والواقع أن القعود عن العمل وجمع المال، والسيطرة على موارده من قبل غير المؤمنين، أضر بالإسلام والمسلمين والناس أجمعين في الداخل والخارج؛ ففي الداخل أخرس ألسنة العلماء عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن مواجهة الظالم بظلمه، بل تحول الكثير منهم إلى أدوات تبرر الظلم وتسوغه. أما في الخارج فإن حاجة الشعوب والأمم إلى المال، أجبرتها - في كثير من المواقف والسياسات - إلى التنازل عن كراماتها واستقلالها وقيمها في الفضائل الإنسانية.

ولا بد للتربية أن تتوسع في - تشخيص المشورات المدمرة - التي قدمها خبراء التربية الغربيون للأقطار الإسلامية في العصر الحديث. وكان من ثمارها تنظيم المناهج، وبناء آلاف المدارس والجامعات، التي تخرج الآلاف من المختصين بتحليل شعر بعر الآرام، ووصف المواقد ومرابض الجمال، والغزل والتشبيب، وتاريخ الغزوات القبلية، [ ص: 71 ] والفتن، بينما لم يؤسسوا إلا مدرسة زراعية أو صناعية واحدة، تقام في زاوية معزولة من زوايا القطر النائية، ثم لا يجد خريجوها العمل، أو الاحترام، ويكونون عينة مرعبة، لما سيكون عليه المتخصص في الزراعة أو الصناعة.

3- اشتراك الأمة كلها للانتفاع بمصادر الثروة العامة، وعدم احتكارها من قبل فئة أو طبقة. وهو ما يوجه إليه  قوله تعالى: ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) [الحشر:7]. وفي تفسير الطبري: أن الحكمة من  قوله تعالى: ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [البقرة:188] إشارة إلى أن المال للأمة مجتمعة. فالباطل هـو أن يحتكره البعض دون البعض الآخر، أو يستأثر بوافره دون الآخرين؛ لأن الأصل في مفهوم الأمة المسلمة أنها كالجسد الواحد، وأن الغاية هـي توفير أمنها مجتمعة، فإذا ظهر التفاوت وصار المال دولة بين الأغنياء وحدهم، انعكست آثار ذلك على الجميع، ولم ينج من الأمة أحد، وإنما الأمر يختلف بتوفير الهلاك، حيث يهلك المحرومون أولا، ثم يتبعهم المحتكرون؛ فالأصل في المال أنه لله، وأن الأمة كلها مستخلفة عليه، ولها مجتمعة حق الانتفاع به، شريطة أن لا يخرج مفهوم المال عن كونه " ماعونا " يعين الناس على إقامة أمور دينهم ودنياهم.

وفي تفسير الصحابة لقوله تعالى: ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) [التوبة:34] هـناك تفاسير متنوعة تتكامل جميعها لتقرر وجوب انتفاع الأمة كلها بمصادر الثروة، وعدم احتكارها من قبل فئات أو طبقات معينة. ففريق - على رأسه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه - يرون أن الكنز هـو كل ما زاد عن أربعة آلاف درهم، أديت فيه الزكاة أم لم تؤد. وفريق - على رأسه أبو ذر الغفاري وسالم بن أبي الجعد رضي الله عنهما - يرون أن كل ما زاد من المال عن حاجة صاحبه فهو كنز. وفريق - على رأسه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما -  يرون أن الكنز هـو كل مال وجبت فيه الزكاة، ولم تؤد زكاته [19] ولقد قدم  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأشعريين نموذجا يجسد الإيواء، ويمثل التطبيق الأمثل لمبدأ المشاركة العامة بالثروة، والأشعريون هـم جماعة من المسلمين ينسب إليهم الصحابي أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -. ولقد كان من فقههم للإيواء [ ص: 72 ] والمشاركة العامة في الثروة أنهم لا يكنزون شيئا دون بعضهم. فإذا انتابهم قحط في أيام السلم، أو حلت بهم ضائقة اقتصادية في أيام الحرب، جمعوا ما عندهم من المال والغذاء، ثم اقتسموه بالتساوي.

ولقد ( وصف  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عملهم هـذا بقوله: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم، في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم ) [20] أي هـم على سنتي، وهم النموذج الذي يمثل هـذه السنة.

ولا شك أن كلا من الآية والحديث المذكورين يشير إلى أن الأصل في الاقتصاد الإسلامي هـو ضمان حاجات الأمة مجتمعة. ولذلك يتوجب على التربية الإسلامية أن تضع في محور القيم الاقتصادية التي تنميها وجوب الاقتداء بأمثال فقه الأشعريين ، وفقه علي بن أبي طالب ، وفقه أبي ذر وسالم بن أبي الجعد من الصحابة، بهدف بلورة علم اقتصاد إسلامي، ونظم اقتصادية إسلامية قادرة على إعادة التوازن في حاجات الأمة، كلما نزلت بالأمة أزمات اقتصادية، أو حدث في صفوفها فروق طبقية، وهو الأمر الذي عزم " الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  على فعله حينما قال: عزمت على أخذ فضول أموال أغنيائهم وردها إلى فقرائهم. "

والواقع أن تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمجتمع الذي بناه، قامت على جعل هـذا التوازن الاقتصادي محور الحياة الاجتماعية؛ لأنه يجسد المظهر الاجتماعي للعبادة. وهذا المظهر هـو محور صدق  العبادة، كما تم تفصيل ذلك في كتاب " فلسفة التربية الإسلامية " والأمثلة لهذه السياسة النبوية كثيرة جدا. ومن أمثلتها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار ) [21] [ ص: 73 ]

والإشارة إلى الموارد الثلاثة بالأسماء الواردة في الحديث، إنما هـي إشارة إلى مقومات الحياة الرئيسة في تلك البيئة الصحراوية، في تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الإسلامي. فإذا تبدلت البيئة وتطورت المرحلة انسحبت حكم الشراكة على مقومات الحياة الرئيسة للعيش فيها أيضا، إذ الأساس في الإيواء هـو توفير الأمن الاقتصادي والاجتماعي، المفضي إلى الأمن الديني في مهجر الأمة. وكل ملكية فردية تزول وتتحول إلى الأمة، إذا قامت الحاجة لذلك. ومن توجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: ( كل شيء سوى جلف هـذا الطعام، والماء العذب، أو بيت يظله، فضل ليس لابن آدم فيه حق ) [22] ( ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتد عليه مئونة الناس. فمن لم يحتمل تلك المئونة للناس فقد عرض تلك النعمة للزوال. ) [23] .

( إن لله أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها إلى غيرهم، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم ) [24] . ( إن إبليس يبعث أشد أصحابه، وأقوى أصحابه إلى من يصنع المعروف في ماله ) [25] 4- حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للمعرفة الموصلة إلى الله تعالى:

إن مظاهر الانتفاع بالأرض التي مرت في البنود (1، 2، 3) ليست أهدافا نهائية في ذاتها، وإنما أهداف خاصة تفضي إلى هـدف عام أكبر، وهو: حسن الانتفاع بالأرض باعتبارها أحد مختبرات الآفاق والأنفس التي يشاهد الإنسان فيها معجزات الله في خلقه، وشواهد ربوبيته، وبراهين توحيده في الطاعة والمحبة والولاية. وإلى هـذا الهدف العام الكبير يوجه أمثال  قوله تعالى: ( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ) [الجاثـية:3]، ( وفي الأرض آيات للموقنين ) [الذريات:20]. وتتنوع مظاهر المعرفة التي يوجه القرآن إلى ميادينها في الأرض:

فهناك توجيهات إلى علوم " أصل الأنواع " ونشأة المخلوقات. والطريقة التي يرشد إليها القرآن في هـذا الميدان، هـي السير في الأرض، ودراسة ما على سطحها من كائنات ومخلوقات: [ ص: 74 ]

( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) [العنكبوت:20].

وهذا المنهج طبقه " دارون " حين سار في الأرض مبتدأ من جنوب أمريكا الجنوبية ، ولكنه - بسبب منهج المعرفة الذي يفصل بين الوحي والعقل والحواس - ضل الفهم، وأخطأ تفسير ظواهر الخلق التي درسها. واليوم يكتشف العلماء الكثير من أخطاء " دارون " ومنهجه في البحث، ولكن يبدو أنه اكتشاف متأخر؛ لأن آثار أخطاء دارون قد ترسخت في تطبيقات أفكاره في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية والأخلاق والقيم، وأفرزت آثارا مدمرة في حياة الفرد وعلاقات الجماعية.

وهناك توجيهات إلى مختلف العلوم الطبيعية المتعلقة بالأرض والكواكب، وما على الأرض ما كائنات حية وجامدة، ومن أمثال هـذه التوجيهات: ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ) [فاطر:41].

ولقد اكتشفت البشرية بعض أدوات هـذا الإمساك المتمثلة في الجاذبية وقوانينها، ولكن افتقارها لتوجيهات الوحي أعماها عن الحق في هـذا الاكتشاف: ( خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) [الزمر:5]، ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) [البقرة:164].

هناك توجيهات إلى علوم الاجتماع البشري الذي جرى على الأرض، ودعوة للتنقيب في آثار المجتمعات السابقة، واكتشاف الأسباب التي أدت إلى انهيارها، وعمل سنن الله فيها: ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) [الروم:9].

وخلال هـذا التوجيه يلفت القرآن الكريم الانتباه إلى أن كثيرا من الأجيال السابقة قد عمرت الأرض وجعلت العلوم التي ساعدتها على التمكين في الأرض غاية بذاتها، وفرحت بها، وتكبرت، وبطرت، وانصرفت عن الغاية الكبرى، وهي طاعة الله، وتجسيد هـذه الطاعة في الإصلاح في الأرض، فكانت مصيرها أن نزل بها ما كانت تستهزئ بالآخرين منه، من ضعف وتخلف وانهيار. وهذا هـو الخطر الذي يتهدد الحضارة الحديثة التي فتنها التقدم العلمي والتكنولوجي، فراحت تحارب الله ورسله في كل الميادين، وترتكب نفس الخطأ في الفرح بالعلم، والوقوف عند ثمراته المادية، دون الانتقال إلى غاياته الإيمانية: [ ص: 75 ]

( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) [غافر:82، 83].

وتتكرر الدعوة إلى السير في الأرض، شريطة أن تكون غايات هـذا السير استعمال أدوات المعرفة - من العقل والسمع والبصر - للبحث عن مظاهر الحق في خلق الأرض، لا سير الغافلين عما يرون ويسمعون، الباحثين عن المتع الدنسة والشهوات الهابطة: ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) [الحج:46].

والنتيجة النهائية لهذا السير في الأرض والبحث في خلقها، وما عليها، والأحداث التي جرت فوقها، هـي تخريج نوع من البشر يظلون في قراءة دائمة لآيات الآفاق والأنفس، وذكر دائم جوهره: ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هـذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) [آل عمران:191]

ثانيا: والمظهر الثاني لعنصر الإيواء هـو: تنمية قيم الاستقرار والزواج، وتكوين الأسر ، وما يتفرع عن ذلك من توفير للسكن ووسائل المواصلات، واعتبار الموجود منها في عداد الملكية العامة إذا اقتضت الظروف ذلك.

وتقدم التوجيهات النبوية أصولا عقدية لمثل هـذه القيم، من ذلك ما رواه ( أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن  رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ) قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل [26] وفي مواقف أخرى يحذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مستقبل الاحتكار في وسائل النقل، وفي السكن؛ ( فعن أبي هـريرة - رضي الله عنه - قال: قال  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تكون إبل للشيطان، وبيوت للشياطين. فأما إبل الشيطان فقد رأيتها؛ يخرج أحدكم بجنيبات معه قد أسمنها، فلا يعلو بعيرا منها، ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله. وأما بيوت الشياطين فلم أرها ) [27] والإشارة إلى الإبل، رمز لوسائل المواصلات، وهي تتغير بتغير العصر وتقدم [ ص: 76 ] التكنولوجيا، ومثلها الإشارة إلى البيوت. ومعنى " لم أرها " أي: لم توجد زمن الرسول، وإنما ستأتي في أزمان بعده، حين يحتكر المأوى، ويمتلك أناس عشرات المنازل الفارغة، والمباني الشاهقة، بينما ملايين المسلمين يأوون إلى الخرائب، ويفترشون الطرقات الأرضية، وتكون هـجراتهم في الأرض في سبيل المأوى والغذاء.

غير أن بناء المساكن وإقامة المباني في القيم الإسلامية محدودة بحدود الغايات الكبرى من الإيواء، فالبناء يكون في قمة الأعمال الصالحة، إذا كان الهدف منه إيواء المحتاجين للمأوى، وجمع قلوب الأمة على الصلاح والعدل والتعاون.

ومن هـذا المنطلق كان التغريب في بناء المساجد، والبنايات التي يأوي إليها المحتاجون. والتوجيهات النبوية في ذلك كثيرة ومتنوعة. من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتا في الجنة ) [28] ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما ينشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحق من بعد موته. ) [29] أما أن تكون المساكن والأبنية إظهارا للعلو في الأرض، وتجسيدا للطبقية والترف، وتمييزا للأغنياء عن الفقراء، وتعطيلا لمساحات واسعة من الأرض عن الزراعة والغرس، فذلك عبث، ولهو طائش، من يقترفه خارج عن تقوى الله وطاعته: ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون ) [الشعراء:128-131].

ولقد فسر ابن عباس وتلميذه مجاهد " الريع " ، بأنه كل مكان مشرف من الأرض مرتفع.. والآية: البنيان.. والعبث: البناء لمجرد التفاخر.. والمصانع: القصور المشيدة [30] والرسول - صلى الله عليه وسلم - يجرد من الأجر كل إنفاق على البناء الذي لا حاجة له أو يستهدف الزينة والمباهاة. من ذلك ( قوله - صلى الله عليه وسلم -: النفقة كلها في سبيل الله، إلا البناء فلا خير فيه. ) [31] " وعن قيس بن أبي حازم قال: إنهم دخلوا على الصحابي خباب وهو يبني حائطا فقال: إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في هـذا التراب " [32] [ ص: 77 ]

ولذلك ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه حين يذهب العلم، ويفشو الجهل، فإن الناس يتنافسون في تشييد البناء، تفاخرا ولهوا، حتى إن سكان الخيام في البادية يشاركون في هـذه المنافسة. من ذلك ( قوله - صلى الله عليه وسلم -: من أشراط الساعة إذا تطاول رعاء البهم في البنيان ) [33] ( وإذا رأيت الحفاة العراة، الصم البكم، ملوك الأرض، فذاك من أشراطها، وإذا رأيت رعاء البهم يتطاولون في البنيان، فذاك من أشراطها ) [34] ثالثا: والمظهر الثالث للإيواء هـو حرمة إقامة الإنسان، وعدم طرده أو نفيه من مكان إيوائه:

فالقرآن الكريم يشدد على حرمة الإيواء، وعدم إخراج الإنسان من سكنه وموضع استقراره، بسبب الخصومات التي تثيرها اختلافات الرأي، أو الولاءات العصبية، والانتماءات الحزبية، أو المصالح المختلفة، من ذلك  قوله تعالى: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هـؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ) [البقرة:84، 85].

ولقد استعرض الطبري تفاسير الصحابة وتلاميذهم لهذه الآية، فذكر أن قتل الرجل رجلا آخر، مثل قتل الرجل نفسه. وإن إخراج الرجل رجلا آخر من مكان إيوائه كإخراجه لنفسه، لأن الأمة لمنزلة رجل واحد، كما قال عليه الصلاة والسلام ، وإنهم في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

ويضيف الطبري، نقلا عن قتادة قوله في الآية: أي لا يقتل بعضكم بعضا ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) . ونفسك يا ابن آدم أهل ملتك (أي أمتك) . وعن أبي العالية في  قوله تعالى: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) أي: لا يقتل بعضكم بعضا، ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار [35] وتتضاعف خطورة نفي الإنسان وإخراجه من مكان إيوائه، إذا كان المنفيون من الرسل والدعاة، ورجال الفكر، والعلم، الذين يكرسون جهودهم لإصلاح ما أفسد الناس. وإلى هـذه الخطورة كانت الإشارة في  قوله تعالى: [ ص: 78 ]

( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) [الإسراء:76، 77].

هذه هـي سنة الله التي مضت في جميع الرسالات من قبل، وسنة ماضية مستمرة، فحين تخرج الأمم رسلها ودعاتها وتنفيهم، ينزل بها العذاب المدمر، ولن تجد لسنة الله هـذه تحويلا. فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : إنها نزلت في أهل مكة حين أخرجوا الرسول - صلى الله عليه وسلم -وصحبه، فعذبهم الله بعد قليل من إخراجهم بقتلهم يوم بدر [36] رابعا: والمظهر الرابع للإيواء هـو الربط بين الأمن المعيشي والأمن الديني:

يقترن الأمن المعيشي بالأمن الديني، اقتران الوسيلة بالهدف، فإذا انهدمت الوسيلة وتعطلت فاعليتها، صعب تحقيق الهدف. ولذلك يوجه القرآن الكريم في دعاء إبراهيم - عليه السلام -  إلى أن توفر الأمن المعيشي والأمن الاجتماعي، سبب في عبادة الله وشكره: ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) [إبراهيم:37].

وتكرر توجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى العلاقة بين العبادة والأمن المعيشي، من ذلك ( ما يرويه الصحابي أبو واقد الليثي - رضي الله عنه -  حيث قال: كنا نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل علينا، فيحدثنا. فقال لنا ذات يوم: إن الله عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون إليه ثان. ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب ) [37] وعند تفسير  قوله تعالى: ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) [التوبة:5] قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعا، لم يفرق بينهما. وقرأ الآية. وأبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه!

" وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: أمرتم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له " [38] [ ص: 79 ]

فالصلاة إذن لا تقوم معانيها في واقع الحياة، إلا إذا اقترنت بإيتاء الزكاة.

والرسول - صلى الله عليه وسلم - يربط أيضا بين الأمن المعيشي، وبين شفاء الإنسان من الجريمة والشح والانحراف، وكأن الأمة المسلمة مسئولة عن توفير الوسائل والمأوى للذين يوفران للمجرمين والمنحرفين الشفاء من أمراضهم وانحرافاتهم، من خلال تلبية حاجاتهم، التي أدت بهم إلى الانحراف؛ ( فعن أبي هـريرة - رضي الله عنه -  أن  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رجل: لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق. فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق. قال: اللهم لك الحمد. لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية. فأصبحوا يتحدثون: تصدق على زانية. فقال: اللهم لك الحمد على زانية. لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقة فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني. فأتي فقيل له: أما صدقتك على سارق، فعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله ) [39] خامسا: والمظهر الخامس للإيواء، هـو الربط بين الإيواء والفاعلية السياسية والإدارية:

وحتى يصبح الإيواء حقيقة قائمة في الحياة الاجتماعية، لا بد من توفير الضمانات الكافية له، وعلى رأسها الوسائل الإدارية والسياسية التي تضمن للإيواء تحققه واستمراره. ولقد اعتمد تنفيذه في صدر الإسلام على تقوى الحاكم، ورسوخه في علمه. من ذلك ما قام به أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -  من رفض حازم لعرض المرتدين لأداء الصلاة دون الزكاة، حتى لا تتعطل فاعلية الصلاة في حياة الناس، وتتحول تحت ضغط الحاجات المادية إلى طقوس وحركات شكلية.

ومثله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  حرص على أن لا يتميز الخلفاء والولاة عن غيرهم من مظاهر العيش. من ذلك كتابه إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -  الذي جاء فيه: " إنما أنت رجل منهم (أي من المسلمين) ، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا. وقد بلغني أنه نشأ لك ولأهل بيتك هـيئة في لباسك، ومطعمك، ومركبك، ليس للمسلمين مثلها. فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصب، فلم يكن لها هـم إلا التسمن، وإنما حتفها في السمن. واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقيت به رعيته " [40] [ ص: 80 ]

" وحين كتب إليه عمرو بن العاص من مصر : أنا قد خططنا لك دارا عند المسجد الجامع. رد عليه الخليفة عمر قائلا: أنى لرجل من الحجاز تكون له دار بمصر؟ وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين. " [41] ثم حدد صلاحية الحاكم بالنسبة لمال الأمة " بقوله: إني أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة اليتيم: إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. " [42] " وفي رواية أخرى: يحل لولي الأمر ما يحل لولي اليتيم، من كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " [43] " ومثله ما فقهه علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه -  حين قال: إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، وإن جاعوا وعروا وجهدوا، فبمنع الأغنياء، وحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه " [44] ولكن التاريخ أثبت أن هـذا الحرص الذي التزمه أبو بكر، والاستعفاف الذي تحلى به الخليفة عمر ، والحس الاجتماعي العادل المرهف الذي أوتيه علي - رضي الله عنهم -   لم يتصف به إلا أبو بكر وعمر وعلي، ونفر لم يتعد أصابع اليد. لذلك لا يجوز أن يترك مصير الإيواء المعيشي والاجتماعي لتقوى الحاكمين ومشيئتهم، وإنما لابد أن توجه التربية إلى صون هـذا الإيواء وحمايته، بالتشريعات والمؤسسات، التي تقيد القائم عليه، وتجعله عرضة للاستجواب والاستفسار، والمحاكمة إن أتى ما يخرق هـذا الحرص والاستعفاف والتشريع.

كذلك لا يجوز أن تترك صدقات الفقراء لمشيئة الأغنياء، ليبذلوا الفضلات، والفتات، والدارهم، والقروش، التي لا تسد حاجة، ولا توقف عوزا، وإنما لا بد من التشريعات وضرائب الضمان الاجتماعي، التي توفر حاجة الأمة في الإيواء بالأساليب الكريمة التي لا تنال من كرامات الناس، ولا تعرضهم للمن والأذى، إذا لم تكف الزكاة لذلك. [ ص: 81 ]  

التالي السابق


الخدمات العلمية