الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الطور الأول: طور الولاء للقوم

حقيقة " المثل الأعلى " الموجه لحياة الأمة في هـذا الطور هـي:

-   دوران الأفكار والأشياء في فلك أشخاص القوم:

واتصال المثل الأعلى بهذه الصفة، يؤدي إلى انحسار عناصر الأمة - أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة - من دائرة أفكار الرسالة إلى دائرة أشخاص القوم، واستبدال مضامينها الفكرية بمضامين قومية. وتكون المحصلة النهائية لتفاعلاتها هـي: الولاء للقوم، وبذلك يتغير تكوين الأمة لتصبح معادلته كما يلي: الأمة = الولاء للقوم (إيمان + هـجرة ومهجر + جهاد ورسالة + إيواء + نصرة) = أفراد يؤمنون بالقوم + هـجرة قومية + جهاد ورسالة قومية + إيواء قومي + نصرة قومية.

أما دائرة أفكار الرسالة، فتتحول صلة الأمة بها إلى صلة نفاق، لا صلة ولاء. أي تتحول إلى أفكار مخزونة تنفق عند الحاجة من أجل نصرة محور الولاء لأشخاص القوم، وقد يبقى في الأمة أفراد أو جماعات تدور في فلك أفكار الرسالة، ولكن دورانهم هـذا يضعهم في غربة عمن حولهم، ولا يخرجون في كل تفاعل اجتماعي إلا بالخبرات السلبية ومشاعر الإحباط والأسى والعدمية.

وفي هـذا الطور، تتعدد محاور الولاء - تبعا لتعدد الأقوام المكونة لأمة الرسالة، بدل الولاء للأمة الواحدة، وتنشأ عن ذلك مضاعفات مرضية في الخبرات الاجتماعية والكونية، ومستوى القدرات العقلية المتفاعلة في الأمة تتمثل فيما يلي:

( أ ) مضاعفات المرض في مستوى الخبرات الاجتماعية والكونية ينحسر مستوى التفاعل مع الخبرات الاجتماعية والكونية في هـذا الطور، تبعا لانحسار المثل الأعلى. ويكون التجسيد العملي لهذا الانحسار في ميدان التربية والعلم، فتتغير فلسفة التربية وأهدافها، إذ يقرأ إنسان التربية في هـذا الطور باسم قومه، أي لرفعتهم، وتمكنهم في الهيمنة والتملك، وكذلك يفعل العالم.. ويكون لهذا التغير نتائج هـي:

النتيجة الأولى

هـبوط مستوى المعرفة من دائرة الأفكار إلى دائرة الأشخاص، ومن اكتشاف الحقائق الجديدة إلى مجرد الإخبار بما أنتجه السلف السابقون. [ ص: 120 ]

والنتيجة الثانية

ضيق دائرة المعرفة عن سابقتها، لتتحدد في فقه مرحلة الحياة، تاركة قضايا النشأة والمصير للمتزهدين المنسحبين من الحياة، بانتظار العدل الأخروي، ومن الدائرة الإنسانية التي تعالج قضايا الإنسان خارج حدود الزمان والمكان، إلى الدائرة القومية التي تحدد المعرفة داخل الحدود العرفية والتاريخية.

والنتيجة الثالثة

دحر فقهاء أفكار الرسالة ومربيها ومؤسساتها من مركز الاجتماع البشري إلى هـوامشه، ومن مواقع الحياة القائمة إلى غيبيات لا صلة لها بمسيرة الإنسان في مراحل النشأة والحياة والمصير.

والنتيجة الرابعة

ظهور فقهاء أقوياء القوم، المتربعين في مراكز النفوذ. وحلول هـذا النوع من الفقهاء محل " فقهاء الرسالة " ، يشكل تحولا جذريا في التربية والفكر، فهل يحل " فقه النزعات القومية " محل " الفقه السنني " . والفرق بين النوعين هـو أن " الفقه السنني " يستنير بآيات الوحي في الكتاب، ليقرأ سنن الاجتماع البشري وقوانين الخلق في الآفاق والأنفس. أما فقه النزعات القومية، فهو يؤول آيات الكتاب ويحرفها عن مواضعها، لتبرر إرادات أصحاب القوة والنفوذ، دون نظر في آيات الآفاق والأنفس. وإلى هـذا التغيير والزوغان يشير قوله تعالى: ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) [الصف:5]، ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) [آل عمران:7].

أي فلما زاغوا - أي تحولوا - عن الدوران في فلك أفكار الرسالة، عملت سنن الله عملها في تحويل قدرات العقل والإرادة في قلوبهم، فصارت تتحرى المتشابه من آيات القرآن لتأويله، وتبرير الدوران في فلك الأشخاص ومصالحهم. ومن هـذا الزيغ كان تحذير الرسول  صلى الله عليه وسلم من أن القرآن والسلطان سيفترقان، وأن على المسلم أن يدور مع القرآن حيث دار، كما مر في حديث سابق. وحدوث هـذا الزيغ يفضي على نتائج خطيرة هـي:

1-        يتجرأ الفقه، ويقضي على وحدته، فيكون هـناك فقه للحياة كما تودها إرادات أصحاب القوة، وفقه ينحسر إلى ميادين النشأة والمصير، دون مرور في محطة الحياة. وينمو فقه المظهر الديني للعبادة، وينحسر فقه المظهر الاجتماعي؛ لأن إرادة الجالسين في مراكز النفوذ تتطلع للبقاء طليقة من أي فقه يقيدها في التصرف بشؤون الحياة والاجتماع. وانحسار فقه المظهر الاجتماعي للعبادة ينعكس على فقه المظهر الكوني، فبدل أن يكون بحثا عن آيات الله في الآفاق والأنفس، يصبح تطويرا لوسائل الهيمنة على البشر، وبدل أن يكون تسخيرا للمخلوقات لخدمة الإنسان، يصبح تسخيرا للإنسان والمخلوقات سواء، لإرادات القوة والنفوذ. [ ص: 121 ]

2-  تفضي النتيجة الأولى إلى نتيجة ثانية، وهي وقوع الانشقاق بين أهداف الحياة - التي توفرها العلوم الدينية - وبين الوسائل - التي توفرها العلوم الطبيعية. وينقسم المشتغلون بالعلوم إلى قسمين: أناس يشتغلون بأهداف بلا وسائل، وأناس يشتغلون بوسائل لا أهداف لها. وتمتد هـذه الانشقاقات إلى مناهج الفهم، حيث يجري تأويل الأفكار والمبادئ تأويلات شتى طبقا للولاءات البشرية، وبذلك تشتغل المؤسسات التربوية بمنجزات الأشخاص، وتنمية الولاءات لهم، وتثور الخصومات الجدلية التي تثيرها الولاءات. وإلى هـذه الانشقاقات يشير قوله تعالى: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) [الأنعام:159].

(ب) مضاعفات المرض على القدرات العقلية والإرادة العازمة والقدرة التسخيرية

تفضي مضاعفات الدوران في فلك الأشخاص إلى نيل من حرية القدرات العقلية، عند كل من إنسان التربية والعالم، وإعاقتها عن النمو السليم، مما يتسبب في ضمور القدرات العقلية العليا، كالتحليل، والتركيب، والتقويم، والاقتصار على قدرات الحفظ والاستظهار، والفهم والتأويل، ويكون من نتائج ذلك ظاهرتان رئيستان:

الأولى: نقص في الإرادة العازمة والقدرة التسخيرية، عن مستواهما في مرحلة صحة الأمة، وولادتهما بصورة غير عازمة ولا تسخيرية، وبالتالي لا ينجبان العمل الصالح بالدرجة التي كان عليها في مرحلة صحة الأمة، أي أن مؤسسات التربية تتوقف عن إخراج الإنسان الصالح بالصورة التي كان عليها في مرحلة صحة الأمة.

والظاهرة الثانية: هـبوط مستوى الحماس للمعرفة والبحث، ولذلك يبدأ التقاعس، والميل على التقليد، وعدم التجديد، والجري وراء الألقاب واليافطات، أكثر من الأعمال والمنجزات. ويكون من نتائج ذلك: توقف المؤسسات التربوية والعلمية عن الهجرات العقلية والنفسية. أي تتوقف عن التجديد في الفهم، وتتخلف عن مواكبة الشؤون المتجددة التي يطرحها الله في الخلق الجديد المتجدد، وتبذر بذور الآبائية، وتضعف الجاذبية الحضارية، فتتوقف هـجرات العقول الرافدة، المتشوقة للمشاركة في حمل الرسالة، ويتوقف تجديد شباب الأمة ومواردها البشرية، ويتحول المهجر إلى وطن مغلق راكد الحركة، سوى ما يكون من تنافس الأقوام، وتناطحها بسبب الولاءات القومية المتباينة.

(ج) اضطراب مستوى التفاعل مع الرسالة (اضطراب شبكة العلاقات الاجتماعية)

في هـذا الطور المرضي، يصيب الخلل التفاعل مع الرسالة، أي ممارسة الحياة طبقا لنموذجها، بالقدر الذي أصاب الخلل " المثل الأعلى " في الأمة، ويظهر هـذا الخلل في [ ص: 122 ] اضطراب شبكة العلاقات الاجتماعية في الداخل والخارج، وبذلك تتشكل هـذه الشبكة كما يلي:

تصبح رابطة الإيمان بالولاء للقوم، هـي المصدر الذي يحدد جنسيات الأفراد وثقافتهم.

يتحول المهجر إلى وطن مغلق، يقتصر على المؤمنين برباط الولاء للقوم.

يتحول الجهاد إلى بذل أشكال الجهد لرفعة القوم، وتفوقهم على بقية الأقوام في الداخل والخارج.

يقتصر الإيواء على من يدورون في فلك الولاء للقوم، الذين يتسلمون زمام القيادة ويتفوقون على غيرهم من الأقوام المكونة للأمة.

تتحول النصرة إلى نخوة قومية، هـدفها نصرة من يدورون في فلك الولاء للقوم.

تتحول الولاية من الاهتمام بشؤون أمة المؤمنين، إلى الاهتمام بشؤون القوم.

وتشكل محتويات عناصر الأمة بهذا الشكل، يؤدي إلى قيام مؤسسات وتشكيل شبكة علاقات اجتماعية توجه النشاطات كما يلي:

1- في البيئة الجديدة - بيئة الدوران في فلك أشخاص القوم - تنحسر معاني الرسالة، فيحذف من الأمر بالمعروف كل ما ينال من إطلاق أيد أشخاص القوم الأقوياء، الأثرياء، ويضيق معنى النهي عن المنكر، ليسقط منه كل ما ينال من أخطاء أشخاص القوم الأقوياء. ويضيق معنى الإيمان بالله ليقتصر على المظهر الديني للعبادة دون المظهر الاجتماعي الذي يسوي أشخاص القوم الأقوياء مع نظائرهم غير الأقوياء والضعفاء.

2- يتبدل سلم القيم في الأمة، ليصبح محوره: القوة فوق الفكرة، الأمر الذي يجعل أولو الأمر هـم أهل القوة بدل أهل الفكر، وتصبح وظيفة مؤسسات النصرة تطبيق الحدود الشرعية لتنفيذ إرادات أهل القوة بدل قيم الرسالة.

3- تنقسم الأمة -  من الناحية العملية - إلى عدة أمم قومية أو شعوبية، تتنافس من أجل الهيمنة والاستئثار بمظاهر الإيواء، وبذلك تنقسم الأمة إلى سادة يهيمنون على منافع الإيواء، وموالي يجاهدون من أجل المشاركة في هـذه المنافع.

4- تبذر بذور قومية الجنسية والثقافية، بما فيها القيم، والعادات، واللغات، والفنون، وغير ذلك، مما يهيئ لظهور حركات الانفصال والنزعات الإقليمية، ويضغط على حدود المهجر الواحد لتفجيره إلى عدد من الأوطان.

5- تتحدد مكانة الأفراد في الأمة، ومسؤولياتهم طبقا لأصولهم القومية،ومكانتهم الاجتماعية، ومواقعهم على دوائر الولاء للقوم، أو الإقليم، أو العشيرة، أو الأسرة [ ص: 123 ] دون اعتبار لمقاييس الفكر والقدرات الفكرية، والولاءات الإسلامية، إلا بمقدار ما تمليه الضرورة في تأمين الولاء لأشخاص القيادة واستقرار نفوذهم.

6- تهتز مكانة العدل في الأمة، وتبذر بذور الظلم، وتفقد قيم الرسالة فاعليتها وتأثيرها، وتتحول إلى قيم مخزونة في مخازن التراث، ينفقها الأقوياء لتبرير هـيمنتهم واحتكارهم، وينفقها المستضعفون لاستجداء أشيائهم، مما يمهد إلى ظهور قيم كفر الترف، وقيم النفاق، وقيم كفر الحرمان، التي تفترس المظلومين من أذكياء الأمة ومحروميها [1] 7- يتحول ولاء عامة الأمة وحبهم وطاعتهم، إلى الأشخاص الأقوياء، الذين يحتكرون الأشياء، ويتحكمون بمصائر الأشخاص الأتباع. وبذلك يتحول الناس من تأليه الله مصدر الرسالة - أي حبه وطاعته - إلى تأليه الأشخاص الأقوياء، وتتحرك إراداتهم إلى المدى الذي يحدده هـذا التأليه. وبذلك تنتقل الأمة من صفاء التوحيد إلى شرك الصنمية: صنمية الأشخاص التي أطلق القرآن عليها اسم " صنمية الأنداد " وتبتكر رموزا جديدة للصنمية، تتلاءم مع روح العصر وثقافته واتجاهاته. وبذلك تتحول الأمة من أمة رسالة إلى أمة سدنة. والفرق بين النوعين من الأمة، أن الأولى تضحي بالأموال والنفوس في سبيل الرسالة، بينما تنفق أمة السدنة أفكار الرسالة لتنال السلطان، وتجمع المال وترفه النفوس، ويتحول فيها العلماء ورجال الفكر ومؤسسات التربية إلى التعلق برسوم العلم ومظاهره، ويشتغلون بفقه الأشكال بدل فقه الأعمال.

التالي السابق


الخدمات العلمية