الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها

الدكتور / ماجد عرسان الكيلاني

الفصل الثاني عشر مرحلة وفاة الأمة (مرحلة الدوران في فلك الأشياء)

يرمز إلى هـذه المرحلة في الشكل رقم (1) بالمثلث د هـ و، حيث تبدأ بوفاة الأمة عند المحطة الزمنية (ه) ، وتنتهي عند إعلان الوفاة، والقيام بالدفن عند المحطة الزمنية (و) ، وتنتهي الأمة إلى حالة الوفاة حين تصبح حقيقة " المثل الأعلى " الذي يوجه الحياة فيها هـي: دوران الأفكار والأشخاص في فلك الأشياء.

والتجسيد العملي لهذا الدوران هـو تمركز شهوات الحياة ومتعها في محور نظام القيم السائدة، وتكريس المقدرات الفكرية والبشرية لتوفير هـذه الشهوات والمتع، ونسيان ما عداها من قضايا النشأة والحياة والمصير. وإلى هـذا النسيان يشير قوله تعالى: ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) [الحشر:19].

والمحصلة النهائية لهذا التبدل في القيم هـي بروز إنسان أناني، تدور اهتماماته حول ملكية الأشياء، والعض عليها بكل الأنياب المادية والنفسية كقوة السلاح، والتآمر، والغش والظلم، والاغتصاب دون اعتبار للآخرين ومصائرهم. ويطلق الرسول  صلى الله عليه وسلم على هـذا النظام القيمي اسم " الملك العضوض " أي الذي يعض عليه أهله بقوة السلاح ويغتصبونه بالقتل والفتن، ويحرسونه بالإرهاب.

وتتفاوت سعة دوائر شهوة الملك العضوض بتفاوت دوائر الممالك في الأمة. فهي تبدأ من ملك الفرد العادي للأشياء، حتى تبلغ أقصى سعتها في الملكية المطلقة للحاكم. وهذا التجانس بين قمة الملك العضوض والقواعد الشعبية العضوضة، يندرج أيضا تحت ( قوله : كما تكونوا يول عليكم. ) وتفصل الأحاديث النبوية في تشخيص هـذا اللون من قيم الملك العضوض ومظاهره ومضاعفاته، من ذلك قوله  صلى الله عليه وسلم : [ ص: 129 ]

( سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالغصب والبخل، ولا المحبة إلا باستخراج الدين، واتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على العز، أتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق بي ) [1] وفي حديث آخر: ( يأتي على الناس زمان هـمتهم بطونهم، وشرفهم متاعهم، وقبلتهم نساؤهم، ودينهم دراهمهم ودنانيرهم، أولئك شر الخلق لا خلاق لهم عند الله ) [2] أولا: أعراض الأمة الميتة

تبقى الأمة الميتة بعد حدوث الوفاة، فترة من الزمن، تكون خلالها كالعمارة الضخمة المتصدعة، التي تظل قائمة مادامت لم تهب الرياح التي تقوض أركانها، أو لم تعمل فيها آلات الهدم التي تهدم حيطانها. ويقدم القرآن للأمم الميتة مثلا من جثة سليمان عليه السلام، التي ظلت زمنا بعد وفاته تخيف العاملين تحت إمرته، فلما أكلت دابة الأرض المنسأة - أو العصاة - التي تستند إليه الجثة، وخرت الأرض، قال العاملون تحت إمرته من الجن والإنس: لو كنا نعلم وفاته ما لبثنا زمنا طويلا في عذاب العمل وتنفيذ الأوامر.

وكذلك أنظمة الحكم الجائرة.. والأمة حين تموت، تبقى زمنا تتكئ على منسأتها من أجهزة الأمن، بحيث يخيل للرازحين تحت ظلمها أنها حية قائمة، حتى يبعث الله عناصر انقلابية من الداخل، أو قوة غازية من الخارج، فتأكل المنسأة، وتخر الأمة، وتعلن الوفاة، وحينئذ يتبين الرازحون تحت ظلمها، أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا زمنا في العذاب المهين.

والرسول  صلى الله عليه وسلم يحدد للأمة الميتة أعراضا مجملة رئيسة يندرج تحت كل عرض تفاصيل دقيقة، يستطيع أولو الألباب من خلال هـذه الأعراض التحقق من وفاة الأمة ونظام الحكم فيها، فيقون الناس مضاعفات الانيهار، ويبدأون محاولات بعث الأمة من جديد. ومن الأحاديث التي تقدم مجمل هـذه الأعراض ما يلي:

( إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودعك من أمر العامة ) [3] [ ص: 130 ]

فالشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، كلها أعراض رئيسة للأمة الميتة، يتفرع عن كل منها عشرات المضاعفات والتفاصيل. وهذه الأعراض تبدو جلية واضحة في الفترة الواقعة بين حدوث الوفاة، وبين إعلانها، وإجراءات الدفن التي مر الحديث عنها.

أما تفاصيل هـذه الأعراض فهي كما يلي:

1-  شيوع الشح المطاع

والشح في اللغة معناه: أشد البخل. وقيل: البخل يكون في المال، أما الشح فيكون بالمال والمعروف [4] . وقيل: إنه الإفراط في الحرص على الشي [5] ولقد عرفه الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - بأنه: أن ترى ما أنفقته تلفا [6] أي خسارة.

ولقد ورد الشح في القرآن الكريم في خمسة مواضع، تتكامل جميعها لتدل على أمور ثلاثة: الأول: أن من يبتلى بالشح، يتصف بعدم الإنفاق في سبيل الله، والبخل بعمل الخير والسلوك الحسن، والتردد في مساعدة الناس، والنكوص عن الجهاد، والجبن أمام الأعداء، وسلاطة اللسان على الأصدقاء، والغياب عن التضحية والبذل، والحضور عند الطمع والغنيمة: ( قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هـلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا * يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ) [الأحزاب:18-20].

والأمر الثاني: أن من برئ من الشح، يتصف بالسخاء، والبذل، وإيثار المصلحة العامة، ومساعدة الناس على الاستقرار، ومحبة القادمين الغرباء كمحبة المقيمين الأقرباء، وتيسير أمورهم: ( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) [الحشر:9]. [ ص: 131 ]

( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هـم المفلحون ) [التغابن:16].

والأمر الثالث: أن الشح ورد في آية أخرى ليشير إلى المرأة العجوز، التي تضن بجزء من حقها لضرتها الشابة، وهذا إشارة إلى أن الشح يشمل التشبث بمنافع لم تعد الحاجة شديد إليها، وعدم التفضل بها لمن هـو أكثر حاجة: ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) [النساء:128].

فالشح في حقيقته نقيض لعنصر الولاية في الأمة. أي أن محوره اختفاء الشعور بالصالح العام، وإبطال لفاعلية شبكة العلاقات الاجتماعية التي توفرها عناصر الأمر، أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والرسالة والجهاد، والإيواء، والنصرة، التي مرت تفاصيلها في فصول سابقة. وبذلك تكون الأمة التي تصاب بالشح كالجسد الميت الذي تتوقف فيه الدورة الدموية، فلا تعود أجهزته تتزود بالغذاء اللازم لاستمرار عافيتها، وأداء وظائفها، مما يمهد لتفسخها وانبعاث نتنها. ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت الشح يتضح أن الشح يتمثل فيما يلي:

( أ ) الشح بيسر الحياة، وشحنها بالضنك والعسر، كتضييق الحكومات على الحريات، وإثقال كاهل الرعية بالضرائب والغرامات، واستغلال رجال الاقتصاد للأزمات وأوقات الشدة وظروف الحرب والقحط، وندرة السلع لممارسة الاحتكار، ورفع الأسعار والإيجار، بغية الحصول على الأرباح الوفيرة، دون اكتراث بما يسببه ذلك من عنت وإرهاق للآخرين.

(ب) الشح بإنجاز الواجبات، وبذل الجهد، وشيوع العجز، والشح بالمعاملة الحسنة، وشيوع الفظاظة والغلظة في ميادين الحياة ومؤسساتها المختلفة.

(ج) الشح بالتكافل وانقطاع التواصل والتراحم، وعدم البذل والتبرع، وانتشار الفردية والأنانية مع الإسراف في الإنفاق على ملذات النفس وشهواتها.

(د) الشح بالمظهر الاجتماعي للعبادة، وشيوع الشكلية في التدين، والاقتصار على تدين " الأشكال " دون " الأعمال " ، والتركيز على حركات العبادة دون إقامة معانيها في الحياة، والتوقف عن الزكاة والجهاد، ومنع أي ماعون يعين المسلم على إقامة روح الدين وفضائله. وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ( فويل للمصلين * الذين هـم عن صلاتهم ساهون * الذين هـم يراءون * ويمنعون الماعون ) [الماعون:4-7]. أي يراءون بالصلاة، بينما هـم يمنعون كل ماعون يعين الناس على يسر الحياة، وعدم الاشتغال بها [ ص: 132 ] اشتغالا يلهيهم عن دينهم، أو يدفعهم دفعا لمخالفته، ومخالفة تعاليمه.

(ه) الشح بالعدل، وشيوع التطفيف في المعاملات. والتطفيف مشتق من قوله تعالى: ( ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) [المطففين:1-3] والتطفيف في العمل أو الوظيفة، أن يرهق أصحاب العمل العمال والموظفين بالواجبات، ويثقلون عليهم في المسؤوليات، في الوقت الذي يدفعون لهم أجورا أو رواتب أقل من غيرهم،ويغتنمون كل فرصة ليخسروهم، أي يخصمون من أجورهم أو رواتبهم.. أما التطفيف في التجارة فهو المبالغة في الاستيفاء عند الشراء، وإنقاص الوزن أو المكيال عند البيع. وهكذا في جميع أنواع المعاملات، وعلاقات العمل، والخدمة والوظيفة.

(و) الشح بالنفس والأبناء والقدرات، والجبن أمام الأخطار الخارجية، أو الأعداء الخارجين، وإيثار السلامة بالمال والنفس، مع القسوة على الأخوة أو الرعايا في الداخل، وهذا ما أشار إليه الحسن بن علي بن أبي طالب حين عرف الجبن بأنه: الجرأة على الصديق، والنكول عن العدو [7] ولقد لخص الرسول  صلى الله عليه وسلم مظاهر الشح التي تقدمت عند قوله: " إياكم والشح، فإنما هـلك من قبلكم بالشح: أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا " [8]

2-   اتباع الهوى

المحور الذي يدور حول الهوى هـو مجانبة العدل في السلوك والتفكير، والشعور، ثم انطلاق في ذلك كله من الحمية العصبية، والشهوات النفسية. ويذكر الرازي في تفسيره، أن الله وضع الهوى في مقابل العدل عند قوله تعالى: ( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) [النساء:135]. ثم يعلق على ذلك فيقول: " المعنى اتركوا متابعة الهوى، حتى تصيروا موصوفين بالعدل.. وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر. فتقدير الآية: فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا " [9] ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت الهوى - الصفة الثانية للأمة الميتة - يتضح أنه يتمثل فيما يلي: [ ص: 133 ]

( أ) الظلم : فالذين يمارسون الظلم، إنما يقترفونه بسبب الهوى، تلبية لحمية عصبية، أو شهوة نفسية، كما أن المظلومين الذين يخنعون أمام الظالم، ويرضون بظلمه، إنما يفعلون ذلك بسبب الهوى، ولذلك ( قال صلى الله عليه وسلم : إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت الظالم فقد تودع منها. ) [10] فالأمة الميتة تسكت أمام سياسات الظلم، وتطبيقاته في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة والفنون والتربية، وتتسابق لتملق الظالم، طلبا لما عنده من شهوات، أو لما تربطهم به من عصبيات، فالتاجر في الأمة الميتة يخشى على تجارته، والموظف يخشى على وظيفته، والعامل يخشى على عمله، وصاحب الشهوة يخشى فقدان شهوته، وهكذا..

ولا يعني هـذا أن الأمة الميتة تخلو من العناصر الصالحة، وإنما معناه أنها تفتقر إلى العناصر (الصالحة/المصلحة) التي تقف أمام الظلم، وتحول دون انتشاره واستشراء مضاعفاته. والتمييز بين الفريقين واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم والحديث الشريف. فالقرآن يؤكد على أن العناصر (الصالحة/المصلحة) هـي الضمان الواقي للأمة من الهلاك ومن العقوبات الإلهية. من ذلك قوله تعالى: ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) [هود:117]. أما العناصر الصالحة غير المصلحة فهذه لا تنجو من الدمار الذي ينزل بالأمم المعذبة: ( وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ) [الأعراف:168].

وينبه الرسول  صلى الله عليه وسلم إلى أن مساعدة الظالم على ظلمه تخرج من الإسلام: " ألا إنه سيكون بعدي أمراء يظلمون ويكذبون، فمن صدقهم بكذبهم، ومالأهم على ظلمهم فليس مني ولا أنا منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ومن لم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه " [11] والسكوت على الظلم ينتهي بالأمة إلى الكوارث والعقوبات الإلهية: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب " [12] ( لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم. ) [13]

(ب) انطفاء العلم وشيوع الجهل : ولا يعني ذلك شيوع الأمية وإغلاق معاهد العلم؛ [ ص: 134 ] وإنما المقصود تعطل فاعلية العلم الناتج عن التربية والتعليم، اللذين يوجهها الهوى بحيث يصبح وجود العلم شبيها بالجهل؛ لأن أصحاب الأهواء يستثمرون العلم والمعرفة استثمارا يجعل فقدهما أنفع من ضررهما، وهم يتخذون من العلم حلية اجتماعية، يتطاولون بها على الناس، ويظلمونهم، بدل مساعدتهم وإنصافهم. وإلى هـذا يشير قوله تعالى: ( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) [البقرة:145].

(ج) انطفاء فاعلية الحقيقة : وشيوع الهوى معناه: الاحتكام إلى النزعات والحمية والشهوات، مما يبطل فاعلية الحقيقة، رغم وقوف الناس عليها. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ( ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) [المائدة:48].

(د) انطفاء الخير والصلاح وشيوع الشر والفساد : في الأمة الميتة التي يشيع فيها الهوى، يتحول الناس إلى أكوام بشرية تتصارع من أجل الشهوات والعصبيات، والحصول على المنافع والمكاسب، فتذهب الأخلاق، وينعدم النظام، ويفشو الفساد في السلوك والمعاملات، وتنعدم روح المسئولية، وتدب الفوضى، ويشيع الغش والخيانة والرشوة، وألوان الخداع والكذب.. وما إلى ذلك. وإلى كل هـذه المضاعفات يشير قوله تعالى: ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) [المؤمنون:71].

(هـ) شيوع الصنمية واختفاء التوحيد : ويكون من نتائج ذلك شيوع الرق النفسي والفكري، واختفاء حريات التفكير والتعبير والعمل والاختيار، وتلغى شخصية الإنسان، فيصبح متقلبا حسب المواقف التي تقررها الرغبة، أو الرهبة، أو الخوف، أو الطمع، أو الحرص. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ( أرأيت من اتخذ إلهه هـواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هـم إلا كالأنعام بل هـم أضل سبيلا ) [الفرقان:43- 44].

(و) شيوع الفرقة وتحطم الوحدة : وإلى ذلك يشير ( قوله  صلى الله عليه وسلم : ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وأن هـذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة، وسيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ) [14] [ ص: 135 ]

(ز) في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى، تشيع الدناءة والصغار، ويندعم الطموح والترفع، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ( ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هـواه ) [الأعراف:176].

(ح) في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى، يشيع الخطأ في الأحكام، والقرارات، والسياسات، والمواقف، وإلى هـذا يشير قوله تعالى: ( ومن أضل ممن اتبع هـواه ) [القصص:50]

(ط) في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى، يشيع الحمق، والقصور العقلي، وقلة الحكمة، وعدم الاستفادة من الخبرات الاجتماعية والكونية التي يقرأها الناس، أو يمرون بها، أو تراها أعينهم، أو تسمعها آذانهم. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ) [محمد:16].

3- إيثار الدنيا

وهذه هـي الصفة الرئيسة الثالثة للأمة الميتة، ومحورها الوقوف عند العناية بنعيم الدنيا وشهواتها، دون اهتمام بأمور النشأة والمصير. فهي إذن توقف عن مسيرة الإنسان نحو الخلود والرقي. ويتكرر الحديث عن إيثار الدنيا في مئات المواضع في القرآن والحديث. ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت إيثار الدنيا يتضح أنه يتمثل فيما يلي:

( أ ) شيوع صنمية المال

وهذه الصنمية هـي محور إيثار الدنيا؛ إذ لما كان المال هـو الوسيلة الموصلة إلى نعيم الدنيا وشهواتها؛ فإن الأمة الميتة تنصب من المال صنما تتقرب لمالكيه بالعبادة: أي بالطاعة الكاملة بسبب الرغبة الكاملة به، والرهبة الكاملة من فقدانه. وإلى هـذه الصنمية يشير ( قوله  صلى الله عليه وسلم : إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال. ) [15] وقوله أيضا: ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي منها رضي، وإن منع سخط ) [16] فهو عبد الدينار والدرهم؛ لأن ولاءه يدور في فلكهما، إن أعطي منها رضي، وإن منع عنه العطاء سخط. والقطيفة هـي التي يجلس عليها، أو هـي رمز للأثاث، فهو عبد الأثاث؛ لأنه دائم التفكير به، مشغول بالبحث عنه، سواء أكان تاجرا أو مستهلكا.. والخميصة هـي اللباس الذي يرتديه الإنسان، فهو عبد اللباس؛ لأنه دائم التفكير به، [ ص: 136 ] والتفتيش عن أزيائه وأشكاله، والنظر في منشورات الدعاية له، والربط بين الدينار والدرهم من ناحية والأثاث واللباس من ناحية أخرى؛ لأنها كلها مرتبطة بعضها ببعض، لا يتوصل عابدها إلى شيء منها إلا بالحصول على الأخرى. وليحصل عابدها عليها، لابد أن يطيع مالكها ومعطيها والمتسبب بالحصول عليها طاعة كاملة، ويرهبهم رهبة كاملة، ويرغب بهم رغبة كاملة، فهي أصنام متعددة، وأرباب متنوعة، لكنها مترابطة يوصل بعضها إلى بعض.

ولذلك قال بعض السلف: إلبس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما أنت تخدمه، واقتن البساط الذي تجلس عليه، لا الذي يجلس عليك [17] والتربية المعاصرة، والثقافة المعاصرة - تربية وثقافة الإنتاج والاستهلاك - تفرز إنسانا تجلس الأشياء فوق عقله وقلبه وجسده، وتنام وتصحو معه، دون أن تدع للأفكار وشبكة العلاقات الاجتماعية متسعا، ويظل ينوء تحت الأشياء كلها أناء الليل والنهار حتى تصبح دينه ودنياه.

(ب) فساد القيادة وانتهاك القيم والحرمات

ذلك أن الأمة الميتة التي تؤثر الدنيا على الآخرة، تدفع إلى مراكز القيادة فيها العناصر المترفة، أي أهل النعمة والبطر والاستكبار [18] ؛ لأنها تتوهم فهم القدرة والخبرة للحصول على الدنيا التي تؤثرها. ولكن المترفين بحكم إصابتهم بنفس الداء يتحولون إلى قيادات ظالمة مستغلة، تتركز سياساتها حول الاستئثار بمزيد من الدنيا، وأسباب البطر والاستكبار، فيختفي العدل، ويفشو الظلم، وتنتهك الحرمات، ويتحلل من المسؤوليات، ويختفي الأمن والاستقرار. وإلى هـذه الحالة يشير قوله تعالى: ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) [الإسراء:16].

والفسق المشار إليه في الآية نوعان: فسق القيادات، أي انحرافها عن المنهاج القويم في الحكم والإدارة، واستعبادها للناس وكبت الحريات.. وفسق الشعوب، وهو سكوتها على انحراف القيادة المترفة، وتملقها وتبرير ممارساتها. ولذلك أدان الله فرعون وقومه سواء، لأنهم سمحوا له أن يستخف بهم فأطاعوه، ونفذوا سياساته، وشكلوا جنده وحراسه: ( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) [الزخرف:54].

(ج) الانغماس في الشهوات وانتشار روح المنافسة والصراع: في الأمة الميتة التي تتصف بإيثار الدنيا، ينحسر عنصر الجهاد والنصرة، في الصراع من أجل حطام الدنيا، [ ص: 137 ] والانغماس في شهواتها. وإلى هـذا يشير ( قوله صلى الله عليه وسلم : فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم ) [19] وفي حديث آخر يقول: ( سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها، ويركبون فره الخيل وألوانها، ويلبسون أجمل الثياب وألوانها، لهم بطون من القليل لا تشبع وأنفس بالكثير لا تقنع، عاكفين على الدنيا، يغدون ويروحون إليها، اتخذوها آلهة من دون إلههم، وربا دون ربهم، إلى أمرها ينتهون، ولها يتبعون، فعزيمة من محمد بن عبد الله لمن أدرك ذلك الزمان من عقب عقبكم، وخلف خلفكم، أن لا يسلم عليهم، ولا يعود مرضاهم، ولا يتبع جنائزهم، ولا يوقر كبيرهم، فمن فعل ذلك فقد أعان على هـدم الإسلام ) [20] ومن الطبيعي أن الرسول  صلى الله عليه وسلم لا يحرم الطيبات التي أحل الله لعباده، ولكنه يشير إلى ظاهرة من مظاهر الأمة الميتة حين تنحسر فيها عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، لتدور في فلك أشياء الدنيا وطيباتها.

(د) سطحية التدين

وتتخذ هـذه السطحية مظهرين: سطحية العامة، حيث يتحول الدين إلى طقوس، وأعياد ومناسبات، وأن يصبح رمضان شهر المطاعم، والملاهي، والتسويق، والشراء، والفوازير، ويصبح الحج موسما للتجارة، والنزهة، والإيجار، والاستئجار. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ( الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا ) [الأعراف:51].

وسطحية العلماء والمتدينين، حيث يجري التركيز على الطقوس والأشكال، بدل الروح والأعمال. وهذه السطحية قديمة، صاحبت الإسلام منذ نشأته، فحذر الرسول  صلى الله عليه وسلم من مستقبلها، ونبه إلى روادها. من ذلك ( ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - حين قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بذهبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها.

قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع إما علقمة بن علاثة ، وأما عامر بن الطفيل . فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هـؤلاء. قال: فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألا تأمنوني وأنا آمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء. قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشر الجبهة، كث [ ص: 138 ] اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله. فقال: ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله. قال: ثم ولى الرجل. فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا، لعله أن يكون يصلي. فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم. قال: ثم نظر إليه وهو مقف. فقال: إنه يخرج من ضئضى هـذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. قال: أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود. )
[21] هذا هـو رائد التدين السطحي، وسنة الأشكال: رجل كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، وهو ضئضى - أي أصل - فئات يتبعون سنته، ويتلون كتاب الله رطبا - أي سهلا لكثرة حفظهم - ولكنهم إذا لاحت لهم شهوة من شهوات الدنيا تجردوا من الذوق، والأخلاق، وقفزوا عليها ومرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم انحدر التاريخ الإسلامي، وشاهد نماذج من هـؤلاء أولوهم بأنهم " الخوارج " .. والحقيقة أن الظاهرة لا تقتصر على فرقة معينة في زمن معين، وإنما هـي ظاهرة متكررة كلما مرضت الأمة وانتهت إلى الوفاة، حيث يبرز من يشعل المعارك حول الأشكال والمظاهر، ومن يفتعل الورع حلو الخروج والدخول، ومن إذا صلى إلى جانبك أشغلك عن صلاتك، وإن منهم من يتلون القرآن رطبا، ويقيمون لحفظه المسابقات، ثم هـم بعد ذلك يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية في شؤون المال والمعاملات الجارية.

(هـ) سطحية العلم والتربية

في الأمة الميتة تنحسر ميادين المعرفة من ميادين النشأة والمصير، وسنن الحياة والكون، لتقتصر على البحث في ميدان الأشياء الدنيوية، وإعداد الناس للحصول عليها، وإنتاجها، ثم استهلاكها، ودوران جميع النشاطات والمناهج التربوية والعلمية في فلك هـذه الدائرة. وإلى هـذه الظاهرة يشير قوله تعالى: ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هـم غافلون ) [الروم:7].

والثمرة العامة للنشاطات التربوية والعلمية، هـي بروز " ثقافة الاستهلاك " التي تلون أنماط الفهم والتفكير، وتحيل كل فقه، حتى فقه القرآن نفسه، إلى أداة لإنتاج الأشياء وتسويقها، والإعلان عنها والتبشير بها وتبرير - بل تمجيد - القائمين على إنتاجها وتسويقها. أما الأفكار فيكون النوع السائد منها هـو أفكار اللغو، أي أدنى مستويات المعرفة التي يسميها القرآن الكريم (لهو الحديث) مثل الأشعار الغزلية، والأدب الوجداني، والقصص الجنسي، وبرامج التسلية والترفيه، وما إلى ذلك. [ ص: 139 ]

وتتصاعد مضاعفات إيثار الدنيا، وتفرز نتائج سلبية في الفكر والسلوك والثقافة، حتى تبلغ قمتها في بروز ظاهرة الكفر والاستخفاف بالإيمان.. والكفر في جوهرة فراغ نفسي وفكري، سببه انحسار الاهتمامات بالدنيا وحدها. وغالبا ما يتخذ هـذا الكفر مظهرين اثنين:

المظهر الأول: كفر ضحايا قيم الحرمان، أي الذين أحبوا الدنيا وسيطرت على اهتماماتهم دون سواها، ولكنهم فشلوا في دوامة الصراع الجاري حول جمع المال والتنعم بالأشياء، فيدفعهم الفقر والفشل والحرمان إلى الكفر، خاصة إذا لم ينهض علماء الدين إلى تبني قضاياهم، والتصدي للظلم الذي ينزل بهم، والدعوة إلى إنصافهم، والعناية بهم.

المظهر الثاني: كفر ضحايا قيم الترف، أي الذين أبطرهم الانتصار في حلبة الصراع على الدنيا، وأفرحهم احتكار النعيم والثروة والقوة، فيدفعهم ذلك إلى أن هـذا النصر مرده علمهم ومهاراتهم في الكسب والإنتاج، ويسخرون من الدين، ويتجرأون على الفساد، والتحلل من المسؤولية الأخروية. وإلى هـذا يشير قوله تعالى: ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا ) [البقرة:212].

4- إعجاب كل ذي رأي برأيه

ومحور هـذه الصفة الأخيرة من صفات الأمة الميتة، هـو تعطل روح الجماعة، والعمل الجماعي، وتوقف تبادل الخبرات والمشورة. وينتج عن ذلك بروز ظواهر التعصب للرأي، والعجب والكبر والتعالم، وإملاء الرأي وفرضه على الآخرين في جميع دوائر الحياة الاجتماعية، ابتداء من القواعد الدنيا في الأسرة، والمتجر، والمصنع، ودائرة الوظيفة، حتى أعلى دوائر المجتمع في رئاسة الحكومة، وقيادة الدولة، حيث زعامات الحكم المطلق، والقيادات الدكتاتورية المتنافرة المتناحرة. ويكون من نتائج ذلك: بروز مجتمعات الكراهية، وفقدان الثقة، وشيوع الحسد، وانعدام التعاون والوحدة، وتفرق الكلمة، والتستر على الأخطاء والنواقص والعيون، ورفض النقد الذاتي، وتبرير الهزائم والنكسات والأزمات، وفشل اللجان والمؤتمرات، وعقم التخطيط واللقاءات والاجتماعات، وانعدام التعاون بين الهيئات والجماعات، وغير ذلك.

والمحصلة النهائية لذلك كله، هـي تحطم روح الجماعة، والعمل الجماعي، وإغلاق قنوات الاتصال والتفاهم، فلا تحل المشكلات إلا بالخصومة، والفتن، والتآمر والقتل. وإلى هـذا المصير يشير قوله تعالى: ( قل هـو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) [الأنعام:65]. ولقد فسر ابن عباس - رضي الله عنهما -  قوله تعالى: ( من فوقكم ) : من أمرائكم.. و ( من تحت [ ص: 140 ] أرجلكم ) : من سفلتكم.. ( يلبسكم شيعا ) : الأهواء ولاختلاف.. ( ويذيق بعضكم بأس بعض ) : يقتل بعضكم بعضا [22] والواقع أن معاني الآيات المشار إليها لا تقتصر على ما استقاه ابن عباس من خبرات زمانه، بل هـي تتدفق طبقا لما يحدثه الخلق الجديد (التطور) في الأزمنة والأمكنة والتكنولوجيا. فقد يكون من مظاهر (من فوقكم) : الطائرات، والقذائف الصاروخية المدمرة، وقد يكون من مظاهر (من تحت أرجلكم) : الألغام والمتفجرات الناسفة، وقد يكون من مظاهر (يلبسكم شيعا) : الأحزاب والمنظمات المتحاربة من أجل غايات مختلطة يحوطها اللبس والغموض والدسائس الخفية. فمظاهر العذاب تتطور بتطور أدواته، أما القوانين والسنن، فهي خالدة مترابطة، وأقدار - أي قوانين - متتالية يفضي بعضها إلى بعض، حين تفسق الأمم عن الصراط المستقيم، دون أن توقفها أهواء، أو تحد من هـولها وعواصفها عصبيات ونزعات.

ثم أن هـذه الأعراض الأربعة الرئيسة للأمة الميتة: أعراض الشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، تتبادل التأثير السلبي وتتضافر في إفراز مضاعفاتها الأخلاقية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والعسكرية في واقع الأمة الميتة، ولقد فصل الرسول  صلى الله عليه وسلم في ذكر هـذه المضاعفات في أحاديث كثيرة منها: ( يامعشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط. حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض مافي بأيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم ) [23] وفي حديث آخر: ( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء. قيل: وما هـن يا رسول الله؟ قال: إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وبر صديقة وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور ولبس الحرير، واتخذت [ ص: 141 ] القينات والمعازف، ولعن آخر هـذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء، أو خسفا أو مسخا. ) [24] ثانيا: إعلان الوفاة وإجراءات الدفن وخلال الصراعات الدائرة، وتفاعل الفتن، والمضاعفات السلبية في الداخل، تعمد الفئات المهزومة، أو تلك التي فيها بقية صلاح إلى الهجرات المعاكسة، والهروب من أرض الهرج والقتل والفتن، إلى حيث الأمن والاستقرار وسيادة القانون.

أما الخردة البشرية، فتستمر في أتون الصراعات الدموية، ومستنقع الانحرافات الاجتماعية، إلى أن تتمزق الأمة وتتناثر مزقها، تمزقا سياسيا، وتفسخا أخلاقيا، وهزائم، ونكبات، ومجاعات، تصبح حديث المحافل الدولية، ووسائل الإعلام العالمية. وإلى هـذا الوضع المأساوي يشير قوله تعالى: ( فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ) [سـبأ:19].

وبلوغ الأمة هـذه الحالة، يجعلها كالجيفة التي تنفجر أحشاؤها، وينتشر نتنها، فتجذب روائحها الكريهة برابرة الشعوب، والغزاة الطامعين من الخارج، ليقوموا بإعلان الوفاة وإجراءات الدفن.

وغالبا ما يتمثل إعلان الوفاة بالانهيار العسكري السريع أمام الغزاة. والواقع أن ما يبدوا انتصارا ساحقا وهزيمة مروعة، هـو في حقيقة إعلان لوفاة أمة، لفظت أنفاسها من قبل، ولكنها ظلت زمنا تتكئ على أجهزتها المخابراتية والأمنية، وتوهم المرعوبين من جماهيرها أنها حية قائمة، كما ظلت جثة سليمان المتكئ على منسأته زمنا ترعب العاملين تحت إمرته من الإنس والجن، حتى أكلت دابة الأرض تلك المنسأة - أي العصاة - فلما خرت الجثة، قالوا: لو كنا نعلم الغيب ما لبثنا زمنا في العذاب المهين.

وأما عن إجراءات الدفن، فتتمثل بحل جيش النظام الظالم، وبوليسه، ومخابراته، وإداراته، وانهيار الثقافة التي مكنت للظلم والفساد، وتوزيع الميراث الممثل باقتسام الغنائم ومناطق النفوذ.. وإلى هـذه النهاية يشير ( قوله صلى الله عليه وسلم : يوشك الأمم أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟. قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت. ) [25] [ ص: 142 ]

والقرآن يدرج تداعي الأمم الغازية، وما يرافق زحفه من إعلان لوفاة الأمة الميتة، تحت اسم " الصيحة " التي تنتهي بالأمة الميتة إلى نفس النهاية نهاية الغثاء: ( فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ) [المؤمنون:41].

والحق الذي جرت الصيحة طبقا له، هـو إشارة إلى السنن والأقدار، التي تحدد مسارات الأمم ومصائرها. والغثاء في اللغة معناه: القذى، والوسخ، والقش. وفي الحديث هـنا يشير إلى: نفايات البشرية من بقايا الأمة الميتة، التي تنسحب من تيار الحياة البشرية لتتكلس على ضفافه، ونزع المهابة من صدور الأعداء، وقذف الوهن في قلوب المستضعفين الأذلاء، نتائج عمل سنن الله وقوانينه في الاجتماع البشري، تعبر عنها الآية المشار إليها بصيغة ( فبعدا للقوم الظالمين ) ، أي إبعادا لأنظمة الظلم، وإداراته، ومؤسساته، وقادته، ورعاياه، وجيوشه، وبوليسه، وأجهزة مخابراته، وجميع ممارساته؛ فالأمة التي تجبن أن تقول للظالم يا ظالم، ولا تصلح آثار الظلم، يبعث الله عليها (الصيحة) ، أو هـدير الغزاة وآلاتهم الحربية، ليقوموا بما وهنت الأمة عن القيام به. إنها عمليات جراحية إلهية تستهدف فك  الأغلال السياسية، والآصار الاجتماعية، والثقافية التي مكنت للظلم، وسمحت للظالمين بإحكام قبضتهم إحكاما لا فكاك منه. [ ص: 143 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية