الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4996 ص: فإن قال قائل: فإن النظر يدل على ما قال أهل المقالة الأولى، وذلك أن على الناس أن يستحيوا أنفسهم، فإذا قال الذي له سفك الدم: قد رضيت بأخذ الدية وتركت سفك الدم; وجب على القاتل استحياء نفسه، فإذا وجب ذلك عليه أخذ من ماله وإن كره، فالحجة عليه في ذلك أن على الناس استحياء أنفسهم -كما ذكر- بالدية، وبما جاوز الدية وبجميع ما يملكون.

                                                وقد رأيناهم أجمعوا أن الولي لو قال للقاتل: قد رضيت أن آخذ دارك هذه على ألا أقتلك، أن الواجب على القاتل فيما بينه وبين الله -عز وجل- تسليم ذلك وحقن دم نفسه، فإن أبى لم يجبر عليه باتفاقهم، ولم يؤخذ منه كرها، فيدفع إلى الولي، فكذلك الدية إذا طلبها الولي فإنه يجب على القاتل فيما بينه وبين ربه أن يستحيي نفسه بها، وإن أبى لم يجبر عليه، ولم يؤخذ منه كرها.

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال: إن وجه النظر والقياس يقتضي صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى; وذلك لأنه يجب على الناس أن يستحيوا أنفسهم، يعني: يجب عليهم أن يسعوا في إبقاء أنفسهم وإحيائها، فإذا قال الولي الذي له سفك دم القاتل: فقد رضيت بأخذ المال وتركت سفك الدم، وجب على القاتل إحياء نفسه وإبقاؤها، فإذا كان هذا واجبا عليه، يؤخذ منه المال رضي أم لم يرض.

                                                وتقرير الجواب: هو ما أشار إليه بقوله: "فالحجة عليه في ذلك" أي فالدليل والبرهان على هذا القائل فيما قاله.

                                                [ ص: 239 ] وأراد بها الجواب عن سؤاله.

                                                بيانه أن يقال: يجب على كل أحد إحياء نفسه بدفع الدية وبدفع أكثر منها وبدفع جميع ما يملكه لإبقاء نفسه، وقد أجمعوا أن الولي إذا طلب من القاتل شيئا معينا ليترك قتله; فإنه يجب عليه فيما بينه وبين الله أن يدفع إليه ذلك الشيء لحقن دمه، ومع هذا لو أبى وامتنع من ذلك لا يجبر عليه ولا يؤخذ منه كرها، فكذلك الدية إذا طلبها ولي المقتول يجب على القاتل فيما بينه وبين الله تعالى أن يدفعها إليه; حقنا لدمه، فإن أبى وامتنع لم يجبر عليه ولا يؤخذ منه كرها.

                                                وكذلك يجب على كل أحد إحياء غيره إذا خاف التلف عليه، مثل أن يرى إنسانا قصد بالقتل أو خاف عليه الغرق يجب عليه تخليصه، أو كان معه طعام وخاف عليه أن يموت من الجوع، فعليه إحياؤه بطعامه وإن كثرت قيمته، فإن كان على القاتل إعطاء المال لإحياء نفسه، فعلى الولي إحياؤه إذا أمكنه ذلك، فوجب على هذه القضية إجبار الولي على أخذ المال إذا بذل القاتل، وهذا يؤدي إلى بطلان القصاص أصلا; لأنه إذا كان على واحد منهما إحياء نفس القاتل فعليهما التراضي على أخذ المال وإسقاط القود، فينبغي إذا طلب الولي داره أو عبده أو ديات كثيرة; كان عليه أن يعطيه; لأنه لا يختلف فيما يلزمه من إحياء نفسه حكم القليل والكثير.

                                                فلما لم يلزمه إعطاء أكثر من الدية عند القائلين بهذه المقالة; كان بذلك انتقاض هذا الاعتلال وفساده.

                                                فإن قيل: احتج المزني للشافعي ومن تبعه في هذه المسألة، وقال: لو صالح في حد القذف على مال أو كفالة نفس; لبطل الحد والكفالة، ولم يستحق شيئا، ولو صالح في دم عمد على مال، صح باتفاق الجميع.

                                                فدل ذلك على أن دم العمد مال في الأصل، لولا ذلك لما صح الصلح، كما لم يصح عن حد القذف والكفالة.

                                                [ ص: 240 ] قلت: فيما قاله المزني خطأ ومناقضة، أما الخطأ: فهو أن من أصل أهل المقالة الثانية: أن الحد لا يبطل بالصلح ويبطل بالمال، والكفالة بالنفس فيها روايتان:

                                                إحداهما: لا تبطل أيضا.

                                                والأخرى: أنها تبطل.

                                                وأما المناقضة: فهي اتفاق الجميع على جواز أخذ المال على الإطلاق، ولا خلاف أن الطلاق في الأصل ليس بمال، وأنه ليس للزوج أن يلزمها مالا عن طلاق بغير رضاها، على أن الشافعي قد قال -فيما حكاه المزني عنه-: إن عفو المحجور عليه عن الدم جائز وليس لأصحاب الوصايا والديون منعه من ذلك; لأن المال لا يملك مع العمد إلا باختيار المجني عليه، فلو كان الدم مالا في الأصل لثبت فيه الغرماء وأصحاب الوصايا، وهذا يدل على أن موجب العمد عنده هو القود لا غير، وإن لم يوجب له خيارا من القتل والدية.

                                                فإن قلت: قوله تعالى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا يوجب لوليه الخيار بين أخذ القود والمال إذ كان اسم السلطان يقع عليهما.

                                                والدليل عليه أن بعض المقتولين ظلما ثبت فيه الدية نحو قتل شبه العمد، والأب إذا قتل ابنه، وبعضهم يجب فيه القود، وذلك يقتضي أن يكون جميع ذلك مرادا بالآية; لاحتمال اللفظ لهما، وقد تأوله الضحاك بن مزاحم على ذلك فقال في معنى قوله: فقد جعلنا لوليه سلطانا أنه إن شاء قتل، وإن شاء عفى، وإن شاء أخذ الدية.

                                                فلما احتمل السلطان ما وصفنا; وجب إثبات سلطانه في أخذ المال كهو في أخذ القود; لوقوع الاسم عليهما.

                                                قلت: حمله على القود أولى من حمله على الدية; لأنه لما كان "السلطان" لفظا مشتركا محتملا للمعاني كان متشابها، فيجب رده إلى الحكم، وحمله على [ ص: 241 ] معناه، وهي آية محكمة في وجوب القصاص وهو قوله تعالى: كتب عليكم القصاص في القتلى الحر فوجب أن يكون من حيث ثبت أن القود مراد بالسلطان المذكور في هذه الآية، أن يكون مقطوعا حتما في الآية المحكمة من ذكر إيجاب القصاص، وليس معك آية محكمة في إيجاب المال على قاتل العمد، فيكون معنى المتشابه محمولا عليه; فلذلك وجب الاقتصار بمعنى الاسم على القود دون المال وغيره؛ لموافقته المعنى المحكم الذي لا اشتراك فيه، على أن في الآية ما يدل على أن المراد القود دون ما سواه; لأنه قال: فلا يسرف في القتل والسرف فيه: أن يقتل غير قاتله، أو أن يمثل بالقاتل فيقتله على غير الوجه المستحق للقتل، وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله: سلطانا القود. والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية