الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4679 ص: قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن العبد إذا كان بين رجلين، فأعتق أحدهما ضمن قيمة نصيب شريكه، موسرا كان أو معسرا. وقالوا: به جعل العتاق من الشريك جناية على نصيب شريكه، يجب عليه بها ضمان قيمته من ماله، وكان من جنى على مال لرجل وهو موسر أو معسر وجب عليه ضمان ما أتلف لجنايته، ولم يفترق حكمه في ذلك إن كان موسرا أو معسرا في وجوب الضمان عليه.

                                                قالوا: فكذلك لما وجب على الشريك ضمان نصيب شريكه لجنايته لما كان موسرا، وجب ضمان ذلك أيضا عليه وإن كان معسرا.

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بالقوم هؤلاء: عروة بن الزبير ، ومحمد بن سيرين ، والأسود بن يزيد ، وإبراهيم النخعي ، وزفر بن الهذيل; فإنهم قالوا: من أعتق شركا له في مملوك ضمن قيمة حصة شريكه، موسرا كان أو معسرا.

                                                ورووا ذلك عن عبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -.

                                                قوله: "وقالوا" أي هؤلاء الآخرون.

                                                تقرير هذا الكلام: أن عتق أحد الشريكين نصيبه جناية منه على نصيب الآخر، فالجاني عليه الضمان، سواء كان موسرا أو معسرا، وسواء كان شريكا أو غير شريك، فافهم.

                                                [ ص: 78 ] واعلم أن هاهنا أربعة عشر مذهبا:

                                                الأول: مذهب هؤلاء المذكورين.

                                                الثاني: مذهب ربيعة .

                                                فإنه قال: من أعتق حصة له من عبد بينه وبين آخر لم يعد عتق. روى ذلك الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران ، عن محمد بن سماعة ، عن أبي يوسف، أن ربيعة قال له ذلك.

                                                الثالث: مذهب الزهري ، وعبد الرحمن بن يزيد ، وعطاء بن أبي رباح ، وعمرو بن دينار .

                                                فإنهم قالوا: ينفذ عتق من أعتق ويبقى من لم يعتق على نصيبه، يفعل فيه ما شاء.

                                                الرابع: مذهب عثمان البتي .

                                                فإنه قال: ينفذ عتق الذي أعتق في نصيبه، ولا يلزمه شيء لشريكه; إلا أن تكون جارية رائعة إنما تلتمس للوطء; فإنه يضمن للضرر الذي أدخل على شريكه.

                                                الخامس: مذهب الثوري ، والليث ، والنخعي في قول.

                                                فإنهم قالوا: شريكه بالخيار، إن شاء أعتق، وإن شاء ضمن المعتق.

                                                السادس: مذهب ابن جريج وعطاء بن أبي رباح في قول.

                                                فإنهما قالا: إن أعتق أحد الشريكين نصيبه استسعي العبد، سواء كان المعتق موسرا أو معسرا.

                                                قال ابن جريج : هذا أول قول خطأ، ثم رجع إلى ما ذكر أولا.

                                                السابع: مذهب عبد الله بن أبي يزيد .

                                                فإنه قال: إن أعتق شركا له في عبد وهو مفلس، فأراد العبد أخذ نفسه بقيمته، فهو أولى بذلك إن يفد.

                                                [ ص: 79 ] الثامن: مذهب ابن سيرين .

                                                فإنه قال في عبد بين اثنين أعتق أحدهما نصيبه: إن باقيه يعتق من بيت مال المسلمين.

                                                التاسع: مذهب مالك .

                                                فإنه قال: من أعتق شركا له في عبد أو أمة فإن كان موسرا قوم عليه حصص شركائه وأغرمها لهم، وأعتق كله بعد التقويم لا قبله، وإن شاء الشريك أن يبقي حصته فله ذلك، وليس له أن يمسكه رقيقا ولا أن يكاتبه ولا أن يبيعه ولا أن يدبره، فإن غفل عن التقويم حتى مات المعتق أو العبد بطل التقويم، وماله كله لمن يمسك بالرق، فإن كان الذي أعتق نصيبه معسرا، فقد عتق ما أعتق، والباقي رقيق يبيعه الذي هو له إن شاء، أو يمسكه رقيقا، أو يكاتبه، أو يهبه، أو يدبره، وسواء أيسر المعتق بعد عتقه أو لم يوسر، فإن كان عبدا أو أمة بين ثلاثة، فأعتق أحدهم نصيبه وهو معسر، ثم أعتق الآخر وهو موسر لم يقوم عليه ولا على المعتق، وبقي بحصته، فإن كان كلاهما موسرا قوم على الذي أعتق أولا فقط، فلو أعتق الاثنان معا وكانا غنيين قومت حصة الباقين عليهما، فمرة قال: نصفين. ومرة قال: على قدر حصصهما، فإن كان أحدهما غائبا لم ينتظر، لكن يقوم على الحاضر.

                                                العاشر: مذهب الشافعي -في قول- وأحمد وإسحاق .

                                                فإنهم قالوا: إن كان الذي أعتق موسرا قوم عليه حصة من شركه وهو حر كله حين أعتق الذي أعتق نصيبه، وليس لمن شركه أن يعتقوا ولا أن يمسكوا، فإن كان المعتق معسرا فقد عتق ما عتق، وبقي سائره مملوكا يتصرف فيه مالكه كما شاء.

                                                الحادي عشر: مذهب ابن شبرمة ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والشعبي ، والحسن البصري ، وحماد بن أبي سليمان ، وقتادة ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-.

                                                [ ص: 80 ] فإنهم قالوا: إن كان المعتق لنصيبه معسرا استسعي العبد في قيمة من لم يعتق، وعتق كله. وذهب إليه الطحاوي .

                                                وقال ابن حزم: وقد ذكرناه عن ثلاثين من الصحابة - رضي الله عنهم -.

                                                قلت: اختلف هؤلاء، أيكون حرا منذ يعتق الأول نصيبه ولا يكون للآخر تصرف بعتق ولا بغيره، أو لا يعتق إلا بأداء؟ ولمن يكون ولاؤه إن عتق باستسعائه؟ وهل يرجع على الذي أعتق بعضه أولا بما بقي له أم لا؟

                                                أما الفصل الأول: فإن أبا يوسف ، ومحمدا والأوزاعي والحسن بن حي قالوا: هو حر ساعة التلفظ بعتقه.

                                                وقال قتادة: هو عبد حتى يؤدى إلى من يعتق حقه.

                                                وأما الفصل الثاني: فإن حمادا والحسن البصري قالا: إن كان للمعتق مال فضمنه فالولاء كله له، وإن عتق بالاستسعاء فالولاء بينهما. وهو قول سفيان أيضا.

                                                وقال الشعبي وابن شبرمة وابن أبي ليلى وكل من قال: "هو حر حين يعتق بعضه": إن ولاءه كله للذي أعتق بعضه، عتق عليه أو بالاستسعاء. وهو قول النخعي أيضا.

                                                وأما الفصل الثالث: فإن ابن أبي ليلى وابن شبرمة قالا: يرجع المعتق بما أدى على العبد، ويرجع العبد إذا استسعى بما أدى على الذي ابتدأ عتقه.

                                                وقال أبو يوسف وغيره: لا رجوع لأحدهما على الآخر.

                                                الثاني عشر: مذهب أبي حنيفة .

                                                فإنه قال: من أعتق نصيبا له من عبد أو أمة، فشريكه بين خيارين: إن شاء أعتق نصيبه، ويكون الولاء بينهما سواء كان في كلا الأمرين موسرا أو معسرا، وله إن كان موسرا خيار في وجه ثالث وهو: إن شاء ضمن المعتق حصته، ويرجع المعتق الآخر على العبد بما ضمنه شريكه الذي أعتق، فإذا أداها العبد عتق رقبته، والولاء في هذا الوجه خاصة للذي أعتق حصته فقط.

                                                [ ص: 81 ] قال: فإن أعتق أم ولد بينه وبين آخر فلا ضمان عليه ولا عليها أيضا، موسرا كان المعتق أو معسرا، أو قال: فإن دبر عبدا بينه وبين آخر فهو بالخيار إن شاء احتبس نصيبه رقيقا كما هو، ويكون نصيب شريكه مدبرا وإن شاء دبر نصيبه أيضا، وإن شاء ضمن العبد حصته منه مدبرا، فإذا أداها عتق وضمن الشريك الذي دبر العبد أيضا قيمة حصته مدبرا، ولا سبيل له إلى شريكه في تضمين، وإن شاء عتق نصيبه فإن ضمن كان لشريكه الذي دبره أن يضمن الشريك المعتق قيمة نصيبه مدبرا.

                                                الثالث عشر: مذهب بكير بن الأشج .

                                                فإنه قال في رجلين بينهما عبد، فأراد أحدهما أن يعتق أو يكاتب: فإنهما يتقاومانه.

                                                الرابع عشر: مذهب الظاهرية.

                                                فإنهم قالوا: من أعتق نصيبه من العبد أو الأمة، فإنه يعتق كله حين يلفظ بذلك، فإن كان له مال يفي بقيمة حصة شريكه حين لفظ بالعتق إذا ما أبى شريكه، وإلا كلف العبد أو الأمة بالاستسعاء في قيمة حصة شريكه على حسب طاقته، ليس للشريك غير ذلك ولا له أن يعتق، والولاء للذي أعتق أولا، ولا يرجع العبد على من أعتقه بشيء مما سعى فيه، حدث له مال أو لم يحدث.




                                                الخدمات العلمية