الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ويتفرع على هذا أن يشهد أجنبيان بعتق سالم وغانم وقيمة كل واحد منهما الثلث . ويشهد وارثان أنه رجع عن عتق سالم إلى عتق غانم ، قبلت شهادتهما ، لأن الواجب بالشهادة عتق أحدهما ، فلما جاز تعيينه بالقرعة ، جاز تعيينه بشهادة الورثة [ ص: 283 ] لانتفاء التهمة وعتق غانم ورق سالم بغير قرعة ، كما جاز أن يكون كذلك بالقرعة ، ويتفرع على كل هذا ، إذا شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم وهو الثلث ، وشهد وارثان أنه رجع عن عتق سالم وأوصى بعتق غانم وهو الثلث ، وشهد أجنبيان أنه رجع عن عتق أحدهما وأوصى بعتق نافع بطلت الوصية بعتق سالم بشهادة الوارثين ، ولم تبطل في غانم بشهادة الأجنبيين ، لأنهما أطلقا الرجوع ولم يعيناه في غانم وثبتت بهما الوصية بعتق نافع ، وقد ثبتت بشهادة الوارثين الوصية بعتق غانم وإبطال الوصية بعتق سالم ، فيرق سالم ، ويقرع بين غانم ونافع ويعتق منهما من قرع ويرق الآخر .

                                                                                                                                            فإن شهد الوارثان برجوعه عن عتق نافع ، جاز وتعينت الوصية بعتق غانم .

                                                                                                                                            ولو شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم ، وشهد وارثان أنه أوصى بعتق غانم ، وشهد أجنبيان أنه رجع عن عتق أحدهما ، لم يكن للشهادة بالرجوع تأثير ، لأنه لو لم يرجع أقرع بينهما ، والرجوع إذا لم يعين يقتضي الإقراع ، فبطل تأثير الشهادة بالرجوع .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو شهد أجنبيان أنه أعتق عبدا هو الثلث وصية ، وشهد وارثان أنه رجع فيه وأعتق عبدا هو السدس ، عتق الأول بغير قرعة للجر إلى أنفسهما ، وأبطلت حقهما من الآخر بالإقرار .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد مضى الكلام في قبول شهادة الورثة بالرجوع في الوصية إذا لم يتهما ، وردها إذا اتهموا ، وصورة مسألتنا هذه أن يشهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم وقيمته الثلث ، ويشهد وارثان أنه رجع عن الوصية بعتق سالم وأعتق غانما وقيمته السدس ، فقد صارا بشهادتهما متهمين ، لأنهما جرا بها بسدس التركة إلى أنفسهما ، فتوجهت التهمة إليهما في نصف الرجوع وهو السدس .

                                                                                                                                            وللشافعي في تبعيض الشهادة إذا ردت بالتهمة في بعض المشهود فيه ، هل يوجب ردها في باقيه ؟ قولان .

                                                                                                                                            كشاهدين شهدا على رجل أنه قذف أمهما وأجنبية ، ردت شهادتهما في قذف أمهما للتهمة وهل ترد في قذف الأجنبية ؟ على قولين :

                                                                                                                                            فاختلف أصحابنا في تخريج هذين القولين في هذا الموضع .

                                                                                                                                            فذهب أبو العباس بن سريج وجمهور البغداديين إلى أن تبعيض الشهادة في هذه المسألة على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها ترد في الجميع ولا تبعيض على ما نص عليه الشافعي في هذا ، الموضع ، فعلى هذا تبطل شهادة الوارثين في كل الرجوع ، ويعتق في التركة سالم [ ص: 284 ] بشهادة الأجنبيين وهو الثلث ، ويعتق غانم على الوارثين بإقرارهما .

                                                                                                                                            والقول الثاني : تبعيض الشهادة هاهنا كما بعضها الشافعي رضي الله عنه في القذف على أحد القولين ، فعلى هذا ترد شهادة الوارثين بالرجوع في نصف سالم " وتقبل في الرجوع بنصفه " ويعتق نصفه بالوصية بشهادة الأجنبيين ، ويرق نصفه بشهادة الوارثين ، ويعتق جميع غانم بشهادة الوارثين وقد استوعب ثلث التركة بالشهادتين .

                                                                                                                                            وذهب جمهور البصريين من أصحابنا إلى المنع من تبعيض الشهادة في هذا الموضع ، وإن كان تبعيضها في الشهادة بالقذف على قولين ، وجعلوا الفرق بينهما معتبرا بأن التهمة إذا توجهت إلى صفة الشاهد ردت ، ولم يجز تبعيضها كالعداوة ، وإذا توجهت إلى صفة المشهود فيه جاز تبعيضها على أحد القولين ، والتهمة هاهنا في صفة الشاهد دون المشهود فيه ، فردت جميعها ولم تبعض .

                                                                                                                                            ويتفرع على هذا ، إذا شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق عبد قيمته نصف التركة ، وشهد وارثان أنه رجع عن الوصية بعتقه وأعتق عبدا قيمته ثلث التركة ، قبلت شهادة الوارثين في الرجوع عن الأول وفي عتق الثاني في الثلث وتنتفي عنهما التهمة في الرجوع بالزيادة لأنها مردودة بالشرع ، فقبلت شهادتهما في الرجوع بالكل .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو لم يقولا أنه رجع في الأول ، أقرعت بينهما حتى يستوظف الثلث ، وهو قول أكثر المفتين إن شهادة الأجنبيين والورثة سواء ما لم يجر إلى أنفسهما " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وقد مضى الكلام في أن شهادة الورثة بالعتق والوصية مقبولة كالأجانب إذا لم يجروا بهما نفعا ، فإذا شهد الأجانب بعتق عبد قيمته الثلث ، وشهد الورثة بعتق عبد قيمته السدس ، ولم يقولوا : إنه رجع عن عتق صاحب الثلث ، فالشهادتان ثابتتان بعتق عبدين يستوعبان نصف التركة ، فيعتبر في تحرير العبد حال الشهادتين ، فإنهما على أربعة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن تكون شهادة الأجنبيين لصاحب الثلث بعتق بات في الحياة ، وشهادة الورثة لصاحب السدس بالوصية بعتقه بعد الوفاة ، فيستوعب الثلث بالعتق البات في صاحب الثلث ، وتبطل الوصية بعتق صاحب السدس لتقدم الناجز في الحياة على الوصية بعد الوفاة .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تكون شهادة الأجنبيين لصاحب الثلث بالوصية بعتقه بعد الوفاة ، وشهادة الوارثين لصاحب السدس بعتقه بات في الحياة فيعتق [ جميع ] ، صاحب [ ص: 285 ] السدس ، ويعتق من صاحب الثلث نصفه استكمالا للثلث ، ويرق باقيه وهو النصف .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن تكون الشهادتان بالوصية بعتق العبدين بعد الوفاة ، فيستوي فيهما من تقدمت فيه الوصية ومن تأخرت ، ويقرع بينهما ليستوظف الثلث من قرع منهما ، فإن قرع صاحب الثلث ، عتق جميعه ورق جميع الآخر ، وإن قرع صاحب السدس ، عتق جميعه وبعض صاحب الثلث استكمالا للثلث ، ورق باقيه وهو نصفه .

                                                                                                                                            والضرب الرابع : أن تكون الشهادتان بالعتق البات في الحياة ، فهو على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن تدل الشهادتان على وقوع عتقهما في حالة واحدة فيقرع بينهما فيتحرر بالقرعة ليستكمل الثلث بعتق القارع ورق المقروع على ما بيناه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تدل الشهادتان على عتق أحدهما قبل الآخر ، ويعلم بها المتقدم من المتأخر فيستوظف الثلث بالأول ، فإن كان الأول صاحب الثلث عتق جميعه ورق صاحب السدس ، وإن كان الأول هو صاحب السدس ، عتق جميعه ونصف صاحب الثلث ، استكمالا للثلث ويرق نصفه الباقي .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن تدل الشهادتان على تقدم أحدهما على الآخر ، ولا تدل على المتقدم من المتأخر ، فقد ذكرنا فيها قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : يقرع بينهما ليستوظف الثلث بعتق القارع ورق المقروع على ما بيناه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه يعتق من كل واحد منهما بقدر ما احتمله الثلث بغير قرعة ، فيعتق من صاحب الثلث ثلاثة أرباعه ، ويعتق من صاحب السدس ربعه .

                                                                                                                                            وبيانه : أن ننزلها تنزيلين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون الأول صاحب الثلث فيعتق جميعه ويرق صاحب السدس كله .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون الأول صاحب السدس فيعتق جميعه ونصف صاحب الثلث ، فيتحرر في التنزيلين أنه عتق نصف صاحب الثلث يقينا .

                                                                                                                                            وتعارض التنزيلان في صاحب السدس ونصف صاحب الثلث وهما في القيمة متساويان فاقتضى أن يكون السدس الباقي من الثلث بينهما نصفين ، فيعتق من صاحب الثلث نصفه ومن صاحب السدس نصفه ، فيصير النصف من صاحب الثلث ثلاثة أرباعه ، ومن صاحب السدس نصفه .

                                                                                                                                            ومثاله : أن يكون صاحب الثلث قيمته عشرة دنانير ، وقيمة صاحب السدس خمسة [ ص: 286 ] دنانير ، وقد خلف المعتق سواهما خمسة عشرة دينارا ، فتصير التركة مع قيمتهما ثلاثين دينارا ، ثلثها عشرة دنانير ، فيعتق من صاحب الثلث ثلاثة أرباعه ، سبعة دنانير ونصف ، ويعتق من صاحب السدس نصفه بدينارين ونصف ، فتصير قيمة المعتق منهما عشرة دنانير هي الثلث ، ويبقى للورثة ربع صاحب الثلث بدينارين ونصف ونصف صاحب السدس بدينارين ونصف يضافان إلى خمسة عشرة دينارا يصير عشرين دينارا هي مثلا ما خرج بالعتق .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية