الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والحال الثالثة : أن يكون هذا المدعي رقه مراهقا مميزا ، وليس ببالغ ففي ثبوت رقه بمجرد الدعوى وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يحكم له برقه عبدا له ، ولا يؤثر فيه إنكاره قبل بلوغه ، ولا بعد بلوغه إلا ببينة تشهد بحريته ، لأن حكم ما قبل البلوغ في ارتفاع العلم سواء .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الحكم برقه موقوف على إقراره ، وإنكاره فإذا اعترف له بالرق ، حكم له بعبوديته ، وإن أنكر الرق حكم له بالحرية ، ولا يحلف على إنكاره ، إلا بعد بلوغه ، ولا يمتنع أن يكون لقوله قبل البلوغ حكم ، وإن لم يجر عليه قلم ، كما يخير قبل البلوغ بين أبويه ، ويصح منه فعل الصلاة ، وإن لم تلزمه ، ويسمع خبره في المراسلات ، والمعاملات ، ويشبه أن يكون هذان الوجهان من اختلافهم في صحة إسلامه بعد مراهقته ، وقبل بلوغه وكلام الشافعي هاهنا في قوله : " إذا كان لا يتكلم " دليل على أنه إذا كان يتكلم بالمراهقة والتمييز أن يعتبر إقراره وإنكاره ، وقد تأوله من قال بالوجه الأول أن معناه إذا كان ممن لا حكم لكلامه .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإن أقام رجل بينة أنه ابنه ، جعلته ابنه وهو في يدي الذي هو في يديه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : يعني الصغير إذا ادعاه رجل عبدا ، وحكم له برقه بمجرد دعواه ، ثم ادعاه رجل آخر ولدا ، وأقام بينة بأنه ولده صار ابنا له ، ولم يزل عنه رق الأول ، لأنه لا يمتنع أن يكون ابن زيد عبدا لعمرو ، لأنه يجوز أن يكون قد ولد له من أمة تزوجها ، فيكون له ابنا وهو مملوك لسيد الأم فلم يتنافى لحوق نسبه ، وثبوت رقه ، إلا أن تشهد بينة المدعي لنسبه ، أنه ولد له من حرة تزوجها ، أو من أمة ملكها ، فيكون الولد حرا ، لأنه لا يجوز أن يولد الحر من الحرة إلا حرا ، ومن أمته إلا حرا ، ولو كان مدعي أبوته لم يقم البينة بها ، فصدقه الولد عليها ، فالصحيح من المذهب أنه يثبت نسبه بتصديقه ، وإن كان على رقه لمدعي عبوديته ، لأنه لا حق للسيد في نسب العبد ، فنفذ فيه إقرار العبد .

                                                                                                                                            [ ص: 373 ] وفيه وجه آخر ؟ أنه لا يثبت النسب بتصديقه لما فيه من الضرر العائد على سيده ، بأن يصير بعد عتقه موروثا بالنسب ، دون الولاء وفيه ضرر على السيد في إبطال ميراثه بالولاء .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا كانت الدار في يدي رجل لا يدعيها ، فأقام رجل البينة أن نصفها له ، وآخر البينة أن جميعها له ، فلصاحب الجميع النصف ، وأبطل دعواهما في النصف ، وأقرع بينهما ، ( قال المزني ) : فإذا أبطل دعواهما ، فلا حق لهما ولا قرعة وقد مضى ما هو أولى به في هذا المعنى " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وجملته أن مقيم البينة بجميعها إذا تورع فيها بإقامة البينة في نصفها ، فقد سلم له نصفها ، لأنه لا تنازع فيه ، ولا تعارض ، وإنما تتعارض بينتاهما في النصف الآخر ، فيكون تعارضهما فيه على الأقاويل الثلاثة :

                                                                                                                                            أحدها : إسقاطهما فيه ، ويخلص لصاحب الكل النصف ، ولا يحمل على القولين إذا ردت الشهادة في البعض ، أن ترد في الكل ، لأن مقيم البينة بالنصف قد سلم لصاحب الكل النصف ، فخرج من النزاع ولم يفتقر إلى البينة فعلى هذا لا يخلو صاحب اليد من أحد أمرين : إما أن يدعيها ملكا ، أو لا يدعيها .

                                                                                                                                            فإن ادعاها ملكا ، زال ملكه عن نصفها المحكوم به لمدعي الكل وفي رفع يده عن النصف الآخر الذي تعارض فيه البينة ، حتى سقطت وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : تقر في يده ، ولا تنتزع لسقوط البينتين بالتعارض ، ويصير فيه خصما للمتنازعين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن تنتزع من يده ، لاتفاق البينتين على عدم ملكه ، وليس تعارضهما من حقه ، وإنما تعارضهما في حق المتنازعين وهي غير متعارضة في حق صاحب اليد ، وإن لم يدعها ملكا رفعت يده ، لتنازع غيره في ملكها ، لتوقف على المتنازعين فيه ، فيتحالفان على النصف ، الذي وقع فيه التعارض عند إسقاط البينتين فيه ، فإن حلفا جعل بينهما وصار لمدعي الكل ثلاثة أرباعها ولمدعي النصف ربعها ، وإن نكلا حكم لصاحب الكل بالنصف وكان النصف الباقي موقوفا ، وإن حلف أحدهما ، ونكل الآخر ، قضى به للحالف منهما دون الناكل ، فإن كان الحالف صاحب الكل ، قضى له بجميع الدار وإن كان صاحب النصف كانت الدار بينهما .

                                                                                                                                            والقول الثاني : يقرع بينهما مع التعارض ، فإن قرعت بينة صاحب الكل ، سلم إليه جميع الدار ، وفي إحلافه قولان ، وإن قرعت بينة صاحب النصف ، جعلت الدار بينهما نصفين ، وفي إحلافه قولان ويدفع عنها صاحب اليد ، سواء ادعاها ملكا أو لم يدعها .

                                                                                                                                            [ ص: 374 ] والقول الثالث : استعمال البينتين ، وقسم النصف بينهما نصفين ، فيصير لصاحب الكل ثلاثة أرباعها ، ولصاحب النصف ربعها ، وصاحب اليد مدفوع بها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية