الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإذا ثبت ما قررناه في أصول الأقسام في هذين القسمين عموما وخصوصا ، وحضر منهم من لا رق عليه ، ولا ولاء ، فادعى نسب لقيط لا رق عليه ، ولا ولاء نظر في دعواه .

                                                                                                                                            [ ص: 404 ] فإن ادعاه ولدا ، سمعت دعواه إذا مكنت ، ولحق به ولدا وناسب جميع من ناسبه مدعيه ، من آبائه وأبنائه ، وإخوانه ، وأعمامه ، سواء صدقوه عليه أو خالفوه ، فإن كان مسلما أجري على اللقيط حكم الإسلام ووجب حفظ نسبه في حقه ، وإن لم يجب في حق المدعي ، وإن كان كافرا فوجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجرى عليه حكم الإسلام ، ويمنع منه قبل البلوغ ، لئلا يلقنه الكفر .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجري على حكم الكفر ، ولم يجب حفظ نسبه ، لا في حقه ولا في حق المدعي ، ولم يمنع منه ما كان في دار الإسلام ، فإن أراد أن يخرج به إلى دار الحرب ، منع منه قبل بلوغه لجواز أن يصف الإسلام ، إذا بلغ ولم يمنع من إخراجه بعد بلوغه إذا أجبر على الكفر .

                                                                                                                                            وإن ادعاه أخا ، ولم يدعيه ولدا ، ردت دعواه إن كان أبوه باقيا ، وكان الأب أحق بالدعوى منه ، وسمعت إن كان ميتا ، ولم يكن لأبيه وارث سواه ، ولا يسمع إن ورثه غيره ، حتى يتفقوا عليه ، ثم إذا سمعت على هذا التفصيل ، وألحق به أخا ، صار مناسبا لجميع من ناسبه ممن علا وسفل من عصبات ، وذوي أرحام ، وأجري عليه في الإسلام ، والكفر ما ذكرناه .

                                                                                                                                            ولو ادعى نسب بالغ مجهول النسب ، لم يثبت عليه رق ، ولا ولاء كانت دعواه

                                                                                                                                            على تصديقه ، فإن أنكر وعدم البينة لم يلحقه نسبه ، وإن صدقه لحق به نسبه بالدعوى ، والتصديق ولهما أربعة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكونوا مسلمين ، فحفظ نسبهما واجب في الجهتين .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يكونا كافرين ، فحفظ نسبهما غير واجب في الجهتين ، إلا أن يكونا في الدعوى قد تنازعا إلى حاكم حكم بينهما بلحوق النسب ، فيجب حفظه لتنفيذ الحكم ، وإن لم يجب في حق النسب .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يكون مدعيه مسلما ، وهو يقر بالكفر ، فإن كان مولودا على الإسلام امتنع أن يكون ولده كافرا ، وقيل : الآن أنت بتصديقك له على الأبوة مسلم ، وادعاؤك الكفر يجري عليه حكم الردة ، فإن أسلمت وإلا قتلت ، وإن كان الأب من ولادة الشرك ، وأسلم بعد البلوغ ، فاحتمل أن يكون مولودا له قبل إسلامه ، أقر الولد على كفره ، ووجب حفظ نسبه في حق أبيه ، دون حقه .

                                                                                                                                            والحالة الرابعة : أن يكون مدعيه كافرا وهو مسلم ، وليس يمتنع أن يكون للمسلم أب كافر ، ولذلك جاز أن يلحق نسبه بكافر ، ويجري على كل واحد منهما حكم دينه ، ووجب حفظ نسبه في حقه ، وإن لم يجب في حق الأب .

                                                                                                                                            [ ص: 405 ] مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإن كانوا مسبيين عليهم رق ، أو أعتقوا فثبت عليهم ولاء ، لم يقبل إلا ببينة على ولادة معروفة قبل السبي ، وهكذا أهل حصن ومن يحمل إلينا منهم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورة هذه المسألة في مسبي من بلاد الشرك استرقه مسلم وأعتقه ، فصار له عليه الولاء ، ثم قدم من بلاد الشرك من ادعى نسبه ، فإن اقترن بدعواه بينة عادلة من المسلمين تشهد له بما ادعاه من النسب على الوجه الجائز في الإسلام ، حكم بها وثبت النسب بينهما سواء كان مدعيه يدعي نسبا أعلى كالأبوة والأخوة ، أو نسبا أسفل كالبنوة .

                                                                                                                                            وإن عدم مدعيه البينة لم يخل حال المدعي ومن عليه رق ، أو ولاء من أربعة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : من أن يصدقاه على النسب ، فيثبت النسب بينهما في الأعلى من الأبوة ، والأسفل من البنوة .

                                                                                                                                            والحالة الثانية : أن ينكراه ، أو يكذباه ، فلا نسب وليس له إحلاف واحد منهما ، أما العتق ، فلأن إقراره لا ينفذ مع إنكار معتقه ، وأما معتقه ، فيلتزم الدعوى على غيره .

                                                                                                                                            والحالة الثالثة : أن ينكره المعتق ، ويصدقه معتقه ، فلا نسب له ، وله إحلاف المعتق بعد تصديق معتقه ، لأنه لو أقر له بالنسب ثبت

                                                                                                                                            والحالة الرابعة : أن يصدقه المعتق ، ويكذبه معتقه ، فلا يخلو مدعي النسب من أحد أمرين : إما أن يدعي نسبا أعلى ، أو نسبا أسفل ، فإن ادعى نسبا أعلى كالأبوة والأخوة ، لم يثبت النسب بينهما مع التصديق ، الأثر وتعليل :

                                                                                                                                            أما الأثر : فأثران أحدهما ما روى الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى شريح أن لا تورث حميلا إلا ببينة .

                                                                                                                                            والثاني : ما رواه حبيب بن أبي ثابت أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم في ميراث الحميل ، فاجمعوا أن لا يورث حميل إلا ببينة .

                                                                                                                                            فصار هذا الأثر الثاني إجماعا .

                                                                                                                                            وأما التعليل : فلأن معتقه لما استحق بولائه عليه أن يرثه ، وكان لحوق النسب يدفعه عن الميراث ، لتقديم الميراث بالنسب على الميراث بالولاء ، لم يكن لهما إبطال حق بصفة من ميراث الميتين بإقرار مظنون محتمل .

                                                                                                                                            [ ص: 406 ] فإن قيل : أفليس لو كان له أخ يرثه ؟ فأقر بابن يحجب أخاه عن الميراث ، ثبت نسبه بإقراره ، فما الفرق ؟ قيل الفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الميراث بالولاء نتيجة ملك قد تفرد به بصفة لا يشاركه فيه ، فلم يقبل في دفعه إقرار عن مشارك فيه ، والميراث بالنسب مشترك ، فجاز أن يثبت بإقرار الشريكين فيه ، فهذا حكم النسب الأعلى .

                                                                                                                                            فأما دعوى النسب الأسفل : وهو أن يدعي الحميل أن هذا المعتق ابنه ، فيصدقه على البنوة ويكذبه معتقه ، ففي ثبوت نسبه وجهان :

                                                                                                                                            وقال ابن أبي هريرة قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يثبت نسبه مع تكذيب معتقه ، كالنسب الأعلى .

                                                                                                                                            والثاني : يثبت نسبه ، وإن كذبه معتقه ، لانتفاء الضرر عنه : لإدخال ولده في ولاء معتقه الذي لا يدخل فيه أهل النسب الأعلى ، فلذلك لا يثبت الإقرار بالنسب الأسفل ، وإن لم يثبت بالنسب الأعلى .

                                                                                                                                            وسمي حميلا ، لأنه يحمل بنسب مجهول .

                                                                                                                                            فأما قول الشافعي : " فكذا أهل حصن ومن يحمل إلينا منهم ، فإنما أراد به الرد على طائفة ، قالوا إن الحميل إذا كان من بلد كبير لم تقبل دعواه ، لتمكنه من إقامة البينة ، وإن كان من أهل حصن أو دير فتثبت وهما عند الشافعي سواء ، لإطلاق الأثر وعموم التعليل .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا أسلم أحد أبوي الطفل أو المعتوه كان مسلما ، لأن الله عز وجل ، أعلى الإسلام على الأديان ، والأعلى أولى أن يكون الحكم له ، مع أنه روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه معنى قولنا ، ويروى عن الحسن وغيره " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، فإن اجتمع إسلام الأبوين ، كان إسلاما لصغار أولادهما معهما يكون للبالغين العقلاء وهذا إجماع ، فأما إذا أسلم أحد الأبوين ، فذهب الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما وأكثر الفقهاء إلى أن إسلام كل واحد منهما يكون إسلاما لهم سواء كان المسلم منهما أبا أو أما .

                                                                                                                                            وقال عطاء : يكونون مسلمين بإسلام الأم دون الأب ، لأنه من الأم قطعا ومن الأب ظنا .

                                                                                                                                            وقال مالك : يكون مسلما بإسلام الأب دون الأم ، لرجوعه في النسب إلى أبيه احتجاجا بقوله تعالى : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) [ الزخرف : 43 ] . [ ص: 407 ] والمراد بالآية الملة ، فدل على إلحاقه بملة الأب دون الأم .

                                                                                                                                            ولقوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم ) [ يس : 6 ] . فدل على إضافة الأولاد إلى الآباء ، دون الأمهات .

                                                                                                                                            ودليلنا قول الله تبارك وتعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم [ الطور : 21 ] . وهم ذرية لكل واحد من الأبوين ، فوجب أن يتبعوا لكل واحد من الأبوين ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أولاد المسلمين معهم في الجنة ، وهم مع كل واحد منهم " فدل على إسلامهم ، ولأن الإسلام حق ، والكفر باطل ، واتباع الحق أولى من اتباع الباطل ، ولأن تعارض البينتين يوجب تغليب أقواهما وأعلاهما ، والإسلام أقوى ، وأعلى من الكفر ، فوجب أن يغلب الإسلام على حكم الكفر ، لقوله تبارك وتعالى : وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ) [ التوبة : 140 ] . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " الإسلام يعلو ولا يعلى " .

                                                                                                                                            وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أي ابن أمة أسلم فديته دية المسلمين وليس يعرف له مخالف .

                                                                                                                                            ويدل عليه أن مسلما لو تزوج كافرة كان الولد مسلما ، كذلك إذا أسلم بعد أن تزوجها وفيه انفصال عن دليله .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله تعالى : إنا وجدنا آباءنا على أمة [ الزخرف : 43 ] . فإنه قاله على وجه الذم لهم ، فدل على أن الحق لهم في عدولهم عنه وأما الجواب عن قوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم ) ، [ يس : 6 ] . فهو أن الإنذار متوجه إلى الآباء والأمهات ، وإن عبر عنه تغليبا لحكم التذكير .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية