الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                      ما تحمل العاقلة وما لا تحمل قلت : أرأيت العاقلة في قول مالك ، هل تحمل أقل من الثلث ؟

                                                                                                                                                                                      قال : لا تحمل في قول مالك أقل من الثلث ، ولا تحمل إلا الثلث فصاعدا .

                                                                                                                                                                                      قلت : وكل شيء يكون في الجسد يبلغ الثلث من ذهاب بصر أو سمع أو لسان أو شلل أو غير ذلك مما هو في الجسد ، فإذا بلغ الثلث حملته العاقلة في قول مالك ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم إذا كان ذلك خطأ .

                                                                                                                                                                                      قال : وقال مالك : ولو ضربه فشجه ثلاث منقلات في ضربة واحدة حملته العاقلة ، لأن هذا قد بلغ أكثر من الثلث .

                                                                                                                                                                                      قلت : فإن شجه ثلاث منقلات في ثلاث ضربات في مقام واحد ، أتحمله العاقلة أم يجعل ذلك في مال الجاني ؟

                                                                                                                                                                                      قال : إن كان ضربا يتبع بعضه بعضا لم يقلع عنه ، فهو بمنزلة الضربة الواحدة تحمله العاقلة . وإن كان شيئا مفترقا في غير فور واحد لم تحمله العاقلة ، وكذلك بلغني عن مالك .

                                                                                                                                                                                      قلت : أرأيت إن أصبت أصبع رجل خطأ فأخذ عقلها ، ثم قطع بعد ذلك رجل كفه خطأ ، ما يكون له من العقل على القاطع ؟

                                                                                                                                                                                      قال : له أربعة أخماس الدية على العاقلة لأنه قد أخذ عقل الأصبع .

                                                                                                                                                                                      قلت : وإن كانت الأصبع إنما ذهبت بأمر من السماء ، ولم يأخذ لها عقلا ؟

                                                                                                                                                                                      قال : هو كذلك ليس له إلا أربعة أخماس الدية ، لأن العقل إنما هو في الأصابع . ألا ترى لو أن رجلا قطع أصابعه الأربعة الباقية بغير كف ، لم يكن له إلا أربعة أخماس الدية ؟ فالأصبع إذا ذهبت بعقل أخذه فيها أو ذهبت بأمر من أمر الله ، فعقل ما بقي من الأصابع في الخطأ وأخذه .

                                                                                                                                                                                      قلت : فإن كانت الأصبع إنما قطعت عمدا فاقتص من قاطعه ، ثم قطعت كفه بعد ذلك خطأ ، أيأخذ ديتها كاملة أم لا ؟

                                                                                                                                                                                      قال : ليس له أن يأخذ إلا على حساب ما بقي .

                                                                                                                                                                                      قال : قال مالك : في العين يصيبها الرجل بشيء فينقص بصرها أو اليد فيضعفها ذلك - وبصر العين قائم ، واليد يبطش بها - ولم يأخذ لها عقلا .

                                                                                                                                                                                      قال مالك : أرى على من أصابها بعد ذلك [ ص: 574 ] العقل كاملا .

                                                                                                                                                                                      قال : قال مالك : وقد قال ابن المسيب في السن إذا اسودت فقد تم عقلها ، وإن أصيبت بعد ذلك ففيها أيضا عقلها كاملا . قال مالك : فالسن قد أخذ لها عقلها ، ومنفعتها قائمة . قال : قلت لمالك : فإن كان أخذ لذلك شيئا في نقصان اليد والعين ؟

                                                                                                                                                                                      قال : قال مالك : ذلك أشكل يريد أنه ليس له إلا ما بقي ويقاص بما أخذ . وقد قال لي قبل ذلك : ليس له إلا على حساب ما بقي .

                                                                                                                                                                                      قال ابن القاسم : ولو أن رجلا أصاب يد رجل خطأ فضعفت وأخذ لها عقلا ، وكان يبطش بها ويعمل بها ثم أصابها بعد ذلك رجل عمدا اقتص منه . وكذلك العين لو أصابها رجل خطأ بشيء فأخذ لها عقلا ، وقد كان يبصر بها ثم أصابها بعد ذلك رجل عمدا اقتص له منه . فالقصاص والدية في هذا مختلفان ، وأما الكف التي يقطع بعضها - عمدا كان أو خطأ - ثم تصاب خطأ بعد ذلك ، فليس له إلا على قدر ما بقي منها ، قل ذلك أو كثر .

                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية