الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 5903 ) مسألة ; قال : ( وإذا طلقها بلسانه ، واستثنى شيئا بقلبه ، وقع الطلاق ، ولم ينفعه الاستثناء ) وجملة ذلك أن ما يتصل باللفظ من قرينة ، أو استثناء ، على ثلاثة أضرب ; أحدها ، ما لا يصح نطقا ولا نية ، وذلك نوعان ; أحدهما ، ما يرفع حكم اللفظ كله ، مثل أن يقول : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا . أو : أنت طالق طلقة لا تلزمك . أو : لا تقع عليك . فهذا لا يصح بلفظه ولا بنيته ; لأنه يرفع حكم اللفظ كله ، فيصير الجميع لغوا ، فلا يصح هذا في اللغة بالاتفاق ، وإذا كان كذلك سقط الاستثناء والصفة ، ووقع الطلاق . الضرب الثاني ، ما يقبل لفظا ، ولا يقبل نية ، لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى ، وهو استثناء الأقل ، فهذا يصح لفظا ; لأنه من لسان العرب ، ولا يصح بالنية ، مثل أن يقول : أنت طالق ثلاثا . ويستثني بقلبه : إلا واحدة أو أكثر . فهذا لا يصح ; لأن العدد نص فيما تناوله ، لا يحتمل غيره ، فلا يرتفع بالنية ما ثبت بنص اللفظ ، فإن اللفظ أقوى من النية ، ولو نوى بالثلاث اثنتين ، كان مستعملا للفظ في غير ما يصلح له فوقع مقتضى اللفظ ، ولغت نيته .

                                                                                                                                            وحكي عن بعض الشافعية ، أنه يقبل فيما بينه وبين الله تعالى ، كما لو قال : نسائي طوالق . واستثنى بقلبه : إلا فلانة . والفرق بينهما أن نسائي اسم عام يجوز التعبير به عن بعض ما وضع له ، وقد استعمل العموم بإزاء الخصوص كثيرا ، فإذا أراد به البعض صح ، وقوله : ثلاثا . اسم عدد للثلاث ، لا يجوز التعبير به عن عدد غيرها ، ولا يحتمل سواها بوجه ، فإذا أراد بذلك اثنتين ، فقد أراد باللفظ مالا يحتمله ، وإنما تعمل النية في صرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته ، فأما ما لا يحتمل فلا ، فإنا لو عملنا به فيما لا يحتمل ، كان عملا بمجرد النية ، ومجرد النية لا تعمل في نكاح ، ولا طلاق ، ولا بيع . ولو قال : نسائي الأربع طوالق . أو قال لهن : أربعتكن طوالق . واستثنى بعضهن بالنية ،

                                                                                                                                            لم يقبل ، على قياس ما ذكرناه ، ولا يدين فيه ; لأنه عنى باللفظ ما لا يحتمل . الضرب الثالث ، ما يصح نطقا ، وإذا نواه دين فيما بينه وبين الله تعالى ، وذلك مثل تخصيص اللفظ العام ، أو استعمال اللفظ في مجازه ، مثل قوله : نسائي طوالق . يريد بعضهن ، أو ينوي بقوله : طوالق . أي من وثاق ، فهذا يقبل إذا كان لفظا . وجها واحدا ; لأنه وصل كلامه بما بين مراده ، وإن كان بنيته ، قبل فيما بينه وبين الله [ ص: 320 ] تعالى ; لأنه أراد تخصيص اللفظ العام ، واستعماله في الخصوص ، وهذا سائغ في اللغة ، شائع في الكلام ، فلا يمنع من استعماله والتكلم به ، ويكون اللفظ بنيته منصرفا إلى ما أراده ، دون ما لم يرده .

                                                                                                                                            وهل يقبل ذلك في الحكم ؟ يخرج على روايتين ; : إحداهما ، يقبل ; لأنه فسر كلامه بما يحتمله ، فصح ، كما لو قال : أنت طالق ، أنت طالق . وأراد بالثانية إفهامها . والثانية ، لا يقبل ; لأنه خلاف الظاهر . وهو مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            ومن شرط هذا أن تكون النية مقارنة للفظ ، وهو أن يقول : نسائي طوالق . يقصد بهذا اللفظ بعضهن ، فأما إن كانت النية متأخرة عن اللفظ ، فقال : نسائي طوالق . ثم بعد فراغه نوى بقلبه بعضهن ، لم تنفعه النية ، ووقع الطلاق بجميعهن .

                                                                                                                                            وكذلك لو طلق نساءه ، ونوى بعد طلاقهن ، أي من وثاق ، لزمه الطلاق ; لأنه مقتضى اللفظ ، والنية الأخيرة نية مجردة ، لا لفظ معها ، فلا تعمل . ومن هذا الضرب تخصيص حال دون حال ، مثل أن يقول : أنت طالق . ثم يصله بشرط أو صفة ، مثل قوله : إن دخلت الدار ، أو بعد شهر ، أو قال : إن دخلت الدار بعد شهر . فهذا يصح إذا كان نطقا ، بغير خلاف . وإن نواه ، ولم يلفظ به دين . وهل يقبل في الحكم ؟ على روايتين . قال في رواية إسحاق بن إبراهيم ، في من حلف لا تدخل الدار ، وقال : نويت شهرا . يقبل منه . أو قال : إذا دخلت دار فلان فأنت طالق . ونوى تلك الساعة ، وذلك اليوم . قبلت نيته . والرواية الأخرى ، لا تقبل ; فإنه قال : إذا قال لامرأته : أنت طالق . ونوى في نفسه إلى سنة ، تطلق . ليس ينظر إلى نيته . وقال : إذا قال : أنت طالق . وقال : نويت إن دخلت الدار . لا يصدق .

                                                                                                                                            ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين ، بأن يحمل قوله في القبول ، على أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى ، وقوله في عدم القبول ، على الحكم فلا يكون بينهما اختلاف ، والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها ، أن إرادة الخاص بالعام شائع كثير ، وإرادة الشرط من غير ذكره غير سائغ ، فهو قريب من الاستثناء . ويمكن أن يقال : هذا كله من جملة التخصيص .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية