الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أنبأنا إبراهيم بن إسحاق الأنماطي ، حدثنا لوين ، حدثنا ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة قال: كان أبي يقول: " مال قوم قط أقاموا على ماء عذب".

حدثنا عمرو بن محمد ، حدثنا الغلابي ، حدثنا بكر بن عامر العتري ، حدثنا هشام بن محمد ، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "من آتاه الله منكم مالا فليصل به القرابة، وليحسن فيه الضيافة، وليفك فيه العاني، والأسير، وابن السبيل، والمساكين، والفقراء، والمجاهدين، وليصبر فيه على النائبة؛ فإنه بهذه الخصال ينال كرم الدنيا وشرف الآخرة".

قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : أجود الجود من جاد بماله، وصان نفسه عن مال غيره، ومن جاد ساد، كما أن من بخل رذل.

والجود حارس الأعراض، كما أن العفو زكاة العقل، ومن أتم الجود أن يتعرى عن المنة؛ لأن من لم يمتن بمعروفه وفره، والامتنان يهدم الصنائع، وإذا تعرت الصنيعة عن إزار له طرفان: أحدهما الامتنان، والآخر طلب الجزاء - كان من أعظم الجود، وهو الجود على الحقيقة.

ولقد أنشدني ابن زنجي:


يا رب عاذلة في الجود قلت لها: قلي، على الله فيما أنفق الخلفا     هل من بخيل رأيت المال أخلده؟
أم هل رأيت جوادا ميتا عجفا؟     لما رأتني أوتي المال طالبه
ولا أبالي تلادا كان أم طرفا     عدت سماحي تبذيرا، ولست أرى
ما يكسب الحمد تبذيرا ولا سرفا

[ ص: 237 ] أنبأنا الحسين بن سفيان ، حدثنا حبان بن موسى، قال: قسم ابن المبارك يوما بين إخوانه وأصحاب الحديث ألف درهم، ثم أنشأ يقول:


لا خير في المال لكنازه     إلا جواد الكف وهابه
يفعل أحيانا بزواره     ما تفعل الخمر بشرابه



حدثني محمد بن عثمان العقبي ، حدثنا الحسن بن محمد، عن ابن السماك، قال: يا عجبي لمن يشتري المماليك بالثمن، ولا يشتري الأحرار بالمعروف.

قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : إن من أحسن خصال المرء الجود من غير امتنان، ولا طلب ثواب، والحلم من غير ضعف، ولا مهانة.

وأصل الجود ترك الضن بالحقوق عن أهلها، كما أن أصل تربية الجسد أن لا يحمل عليه في الأكل، والشرب، والباه، فكما لا تنفع المروءة بغير تواضع، ولا الحفظ بغير كفاية، كذلك لا ينفع العيش بغير مال، ولا المال بغير جود، وكما أن القرابة تبع للمودة، كذلك المحمدة تبع للإنفاق.

أنبأنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار ، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا المبارك بن سعيد الثوري، قال: كان يقال: ثلاث هن أحسن شيء فيمن وجدت فيه: تؤدة في غير ذل، وجود لغير ثواب، ونصب لغير الدنيا.

حدثنا أبو يعلى - بالموصل - حدثنا محمد بن الصباح الدولابي ، حدثنا إسماعيل بن زكريا ، عن عاصم الأحول، قال: قلت للحسن: ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "اليد العليا خير من اليد السفلى"؟ قال: يد المعطي خير من يد المانع.

حدثنا أبو خليفة ، حدثنا ابن كثير ، أنبأنا سفيان ، عن الأعمش ، عن ذكوان ، وعبد الله بن مرة، عن كعب، قال: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله: فقد استكمل الإيمان.

وأنشدني الكريزي ، ليحيى بن أكثم:


ويظهر عيب المرء في الناس بخله     ويستره عنهم جميعا سخاؤه
تغط بأثواب السخاء؛ فإنني     أرى كل عيب والسخاء غطاؤه



[ ص: 238 ] وأنشدني أحمد بن محمد بن عبد الله اليماني لبعض القرشيين:


سأبذل مالي كلما جاء طالب     وأجعله وقفا على القرض والفرض
فإما كريما صنت بالجود عرضه     وإما لئيما صنت عن لؤمه عرضي



وأنشدني كامل بن مكرم أبو العلاء، أنشدني هلال بن العلاء بن عمر الباهلي:


ملأت يدي من الدنيا مرارا     فما طمع العواذل في اقتصادي
وما وجبت علي زكاة مال     وهل تجب الزكاة على الجواد؟



قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : البخل شجرة في النار، أغصانها في الدنيا، من تعلق بغصن من أغصانها جره إلى النار، كما أن الجود شجرة في الجنة، أغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصن من أغصانها جره إلى الجنة، والجنة دار الأسخياء. والبخيل يقال له في أول درجته: البخيل، فإذا عتا وطغى في الإمساك يقال له: الشحيح، فإذا ذم الجود والأسخياء يقال له: لئيم، فإذا صار يحتج للبخلاء، ويعذرهم في فعالهم يقال له: الملائم.

وما اتزر رجل بإزار أهتك لعرضه، ولا أثلم لدينه من البخل.

ولقد أنشدني محمد بن إسحاق الواسطي:


لكل هم من الهموم سعه     والبخل واللؤم لا فلاح معه
قد يجمع المال غير آكله     ويأكل المال غير من جمعه
أقبل من الدهر ما أتاك به     من قر عينا بعيشه نفعه



سمعت الخطابي بالبصرة يقول: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سأل كسرى: أي شيء أضر على ابن آدم؟ قالوا: الفقر، قال :الشح أضر منه؛ إن الفقير إذا وجد اتسع، وإن الشحيح لا يتسع إذا وجد.

أنبأنا إبراهيم بن محمد بن يعقوب ، حدثنا ابن أبي القعقاع، قال: قال أبو الهذيل: كنت عند يحيى بن خالد البرمكي، فدخل عليه رجل هندي، ومعه مترجم له، [ ص: 239 ] فقال المترجم: إن هذا رجل شاعر قد حاول مدحتك، فقال يحيى: لينشد، فقال الهندي:


أره أصره ككرا كي كره مندره



فقال يحيى للمترجم: ما يقول؟ قال: يقول:


إذا المكارم في آفاقنا ذكرت     فإنما بك فيها يضرب المثل



قال: فأمر له بألف دينار.

وأنشدني عبد الرحمن بن محمد المقاتلي:


إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه     فكل رداء يرتديه جميل
إذا قلت: لا، في كل شيء سئلته     فليس إلى حسن الثناء سبيل



وأنشدني عمرو بن محمد الأنصاري، أنشدني الغلابي، أنشدني مهدي بن سابق:


يا مانع المال كم تضن به     تطمع بالله في الخلود معه؟
هل حمل المال ميت معه     أما تراه لغيره جمعه؟



التالي السابق


الخدمات العلمية