الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أخبرنا بكر بن محمد بن عبد الوهاب القزاز ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو بشر حدثنا أبي حدثنا المبارك بن فضالة عن المغيرة بن مسلم الهجيمي عن أسير بن جابر قال " ما رضعت عنزا قط، ولو قلت: لا أرضعها خفت أن يصير بي البلاء إلى أن أرضعها، إن البلاء موكل بالقول ".

وأنشدني الكريزي :


استر العي ما استطعت بصمت إن في الصمت راحة للصموت     واجعل الصمت إن عييت جوابا
رب قول جوابه في السكوت



وأنبأنا محمد بن المنذر ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن يزيد بن حيان عن عيسى بن عقبة قال: سمعت ابن مسعود يقول " والله الذي لا إله غيره، ما شيء أحق بطول سجن من لسان ".

قال أبو حاتم رضي الله عنه: العاقل يحفظ أحواله من ورود الخلل عليها في الأوقات، وإن من أعظم الخلل المفسد لصحة السرائر والمذهب لصلاح الضمائر: الإكثار من الكلام، وإن أبيح له كثرة النطق، ولا سبيل للمرء إلى رعاية الصمت إلا بترك ما أبيح له من النطق.

كما أنبأنا الحسن بن سفيان ، حدثنا حبان بن موسى ، حدثنا عبد الله ، عن سفيان عن نسير بن ذعلوق عن إبراهيم التيمي أخبرني من صحب الربيع بن خيثم عشرين عاما فلم يسمع منه كلمة تعاب.

أنبأنا الجنيدي ، حدثنا عبد الوارث بن عبيد الله ، عن عبد الله أنبأنا سفيان [ ص: 49 ] عن أبي طعمة عن رجل من الحي قال: أتيت الربيع بن خيثم بنعي الحسين. وقالوا: اليوم يتكلم مقالة، فتأوه ومد بها صوته، ثم قال: " اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك بالحق فيما كانوا فيه يختلفون ".

أنبأنا عمرو بن محمد الأنصاري ، حدثنا الغلابي ، حدثنا إبراهيم بن عمرو بن حبيب ، حدثنا الأصمعي قال " بينما أنا أطوف بالبادية إذا أنا بأعرابية تمشي وحدها على بعير لها، فقلت: يا أمة الجبار من تطلبين؟ فقالت: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، قال: فعلمت أنها قد أضلت أصحابها، فقلت لها: كأنك قد أضللت أصحابك؟ قالت: ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) فقلت لها: يا هذه من أين أنت؟ قالت: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) فعلمت أنها مقدسية، فقلت لها: كيف لا تتكلمين؟ فقالت: ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) فقال بعض أصحابي: ينبغي أن تكون هذه من الخوارج، فقالت: ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) فبينما نحن نماشيها إذ رفعت لنا قباب وخيم، فقالت: ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) قال: فلم أفطن لقولها، فقلت: ما تقولين؟ فقالت ( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام ) قلت: بمن أصوت وبمن أدعو؟ فقالت: ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة يا زكريا إنا نبشرك يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) قال: فإذا نحن بثلاثة إخوة كاللآلئ، فقالوا: أمنا ورب الكعبة أضللناها منذ ثلاث، فقالت: ( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ) فأومأت إلى أحدهم فقالت: ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه ) فقلت: إنها أمرتهم أن يرودونا، فجاؤوا بخبز وكعك، [ ص: 50 ] فقلت: لا حاجة لنا في ذلك، فقلت للفتية: من هذه منكم؟ قالوا: هذه أمنا ما تكلمت منذ أربعين سنة إلا من كتاب الله مخافة الكذب، فدنوت منها، فقلت: يا أمة الله، أوصني، فقالت: ( لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) فعلمت أنها شيعية، فانصرفت ".

قال أبو حاتم رضي الله عنه: قد ذكرت ما شاكل هذه الحكايات في كتاب حفظ اللسان فأغنى ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب.

فالواجب على العاقل أن يروض نفسه على ترك ما أبيح له من النطق، لئلا يقع في المزجورات، فيكون حتفه فيما يخرج منه; لأن الكلام إذا كثر منه أورث صاحبه التلذذ بضد الطاعات، فإذا لم يوفق العبد لاستعمال اللسان فيما يجدي عليه نفعه في الآخرة، كان وجود الإمساك عن السوء أولى به.

وأنشدني المنتصر بن بلال الأنصاري :


ولن يهلك الإنسان إلا إذا أتى     من الأمر ما لم يرضه نصحاؤه
وأقلل إذا ما قلت قولا، فإنه     إذا قل قول المرء قل خطاؤه



التالي السابق


الخدمات العلمية