الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ذكر الحث على الضيافة وإطعام الطعام

حدثنا حامد بن محمد بن شعيب البلخي ببغداد، حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره".

قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : إني لأستحب للعاقل المداومة على إطعام الطعام، والمواظبة على قرى الضيف؛ لأن إطعام الطعام من أشرف أركان الندى، ومن أعظم مراتب ذوي الحجى، ومن أحسن خصال أولي النهى، ومن عرف بإطعام الطعام شرف عند الشاهد والغائب، وقصده الراضي والعاتب، وقرى الضيف يرفع المرء وإن رق نسبه إلى منتهى بغيته، ونهاية محبته، ويشرفه برفيع الذكر، وكمال الذخر.

حدثنا محمد بن زنجويه القشيري ، حدثنا أبو مصعب ، حدثنا الدراوردي ، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان إبراهيم الخليل أول من أضاف الضيف.

[ ص: 259 ] حدثنا الأنصاري ، حدثنا الغلابي ، حدثنا إبراهيم بن عمر بن حبيب ، حدثنا الأصمعي ، أخبرني نافع بن أبي نعيم، قال: قال رجل ممن قد أدرك الجاهلية: قدمت المدينة، فإذا مناد ينادي: من أراد الشحم واللحم فليأت دار دليم، وهو جد سعد بن عبادة بن دليم سيد الخزرج، ثم ضرب الزمان من ضربه، فقدمت المدينة، فإذا مناد ينادي: من أراد الشحم واللحم فليأت دار عبادة، ثم ضرب الزمان من ضربه فقدمتها، فإذا مناد ينادي: من أراد الشحم واللحم فليأت دار سعد.

قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : كل من ساد في الجاهلية والإسلام حتى عرف بالسؤدد، وانقاد له قومه، ورحل إليه القريب والقاصي، لم يكن كمال سؤدده إلا بإطعام الطعام، وإكرام الضيف.

والعرب لم تكن تعد الجود إلا قرى الضيف، وإطعام الطعام، ولا تعد السخي من لم يكن فيه ذلك، حتى إن أحدهم ربما سار في طلب الضيف الميل والميلين.

ولقد حدثني محمد بن المنذر ، حدثنا علي بن الحسن الفلسطيني ، حدثنا أبو بكر السني، حدثنا محمد بن سليمان القرشي، قال: بينما أنا أسير في طريق اليمن إذا أنا بغلام واقف على الطريق في أذنيه قرطان، وفي كل قرطة جوهرة يضيء وجهه من ضوء تلك الجوهرة، وهو يمجد ربه بأبيات من شعر، فسمعته يقول:


مليك في السماء به افتخاري عزيز القدر ليس به خفاء



فدنوت إليه، فسلمت عليه، فقال: ما أنا براد عليك سلامك حتى تؤدي من حقي الذي يجب لي عليك، قلت: وما حقك؟ قال: أنا غلام على مذهب إبراهيم الخليل، لا أتغدى ولا أتعشى كل يوم حتى أسير الميل والميلين في طلب الضيف، فأجبته إلى ذلك، قال: فرحب بي، وسرت معه حتى قربنا من خيمة شعر، فلما قربنا من الخيمة صاح: يا أختاه، فأجابته جارية من الخيمة: يا لبيكاه، قال: قومي إلى ضيفنا هذا، قال: فقالت الجارية: اصبر حتى أبدأ بشكر المولى الذي سبب لنا هذا الضيف، قال: فقامت، وصلت ركعتين شكرا لله، قال: [ ص: 260 ] فأدخلني الخيمة، فأجلسني، فأخذ الغلام الشفرة، وأخذ عناقا له؛ ليذبحها، فلما جلست في الخيمة نظرت إلى جارية أحسن الناس وجها، فكنت أسارقها النظر، ففطنت لبعض لحظاتي، فقالت لي: مه، أما علمت أنه قد نقل إلينا عن صاحب يثرب - تعني النبي صلى الله عليه وسلم - أن "زنا العينين النظر"، أما إني ما أردت بهذا أن أوبخك، ولكني أردت أن أؤدبك؛ لكيلا تعود لمثل هذا، فلما كان وقت النوم بت أنا والغلام خارج الخيمة، وباتت الجارية في الخيمة، قال: فكنت أسمع دوي القرآن الليل كله أحسن صوت يكون، وأرقه، فلما أن أصبحت، قلت للغلام: صوت من كان ذلك؟ قال: فقال: تلك أختي تحيي الليل كله إلى الصباح، قال: فقلت: يا غلام، أنت أحق بهذا العمل من أختك أنت رجل، وهي امرأة، قال: فتبسم، ثم قال: ويحك يا فتى! أما علمت أنه موفق ومخذول.

وأنشدني محمد بن إسحاق بن حبيب الواسطي:


إذا ما أتاك الضيف فابدأ بحقه     قبل العيال، فإن ذلك أصوب
وعظم حقوق الضيف واعلم بأنه     عليك بما توليه مثن وذاهب



التالي السابق


الخدمات العلمية