الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
549 الأصل

[ 346 ] أبنا الربيع، أبنا الشافعي، أبنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقام قياما طويلا قال: نحوا من سورة البقرة قال: ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف، وقد تجلت الشمس، فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا [ ص: 38 ] يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت في مقامك شيئا، ثم رأيناك كأنك تكعكعت؟

قال: إني رأيت -أو أريت الجنة- فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت أو أريت النار فلم أر كاليوم منظرا ورأيت أكثر أهلها النساء قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن.

قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط .
.

التالي السابق


الشرح

الحديث مودع في الموطأ وفي الصحيحين، فرواه البخاري عن القعنبي، ومسلم عن محمد بن رافع عن إسحاق بن عيسى بروايتهما عن مالك، ورواه مختصرا أبو محمد الدارمي في مسنده عن البويطي عن الشافعي عن مالك.

وفي الباب عن عائشة، وأبي موسى -وسيأتي حديثهما في الكتاب- وعن علي، وابن عمر، وجابر، وعبد الله بن عمرو، والنعمان بن بشير، والمغيرة بن شعبة، وأبي مسعود، وأبي بكرة، وسمرة، وأبي بن كعب -رضي الله عنهم-.

[ ص: 39 ] وقوله: "وخسفت الشمس" الخسوف والكسوف كل منهما يقال في الشمس والقمر جميعا، وعن بعضهم أن الخسوف يختص بالشمس، والكسوف بالقمر، ونص القرآن يبطله، وقال ثعلب: أجود الكلام: كسفت الشمس وخسف القمر ، وعن الليث بن سعد أن الخسوف فيهما والكسوف في الشمس خاصة، ويقال: كسفت الشمس كسوفا وكسفها الله كسفا فهي كاسفة ومكسوفة وأكسفها الله، ويقال أيضا: انكسفت، وخسف المكان أيضا خسوفا: ذهب في الأرض، وخسف الله بفلان الأرض، ورضي فلان بالخسف أي: بالنقيصة.

وقوله: "الشمس والقمر آيتان من آيات الله ... إلى آخره" ذكر له معنيان:

أحدهما: أن أهل الجاهلية كانوا يزعمون أن كسوف الشمس والقمر يقتضي حدوث تغيرات في العالم من موت كبير وضرر عام كما يزعم المنجمون من تأثير الكواكب، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك باطل، وأن خسوفهما آيتان يريهما خلقه ليعلموا أنهما مسخرات لله تعالى لا يقدران على الدفع عن نفسهما ولا سلطان لهما على غيرهما، وأمر بالصلاة والذكر عند خسوفهما إبطالا لقول الجهال في عبادتهما والسجود لهما، وفزعا إلى الله تعالى المستحق للعبادة والتعظيم.

والثاني: أنهما من الآيات التي تظهر قبيل قيام الساعة على ما قال تعالى: فإذا برق البصر وخسف القمر فيخوف الله تعالى بخسوفهما عباده ويذكرهم أمر الساعة; ليفزعوا إلى الله تعالى بالتوبة [ ص: 40 ] والاستغفار والذكر، ويشهد له قوله تعالى: وما نرسل بالآيات إلا تخويفا .

وفي رواية أبي بكرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولكن يخوف الله بهما عباده .

وقيل: يحتمل أن يكون الأمر بالصلاة والذي عندهما فزعا إلى الله تعالى لاستدفاع ما يوهم متوهمون حدوثه عند حدوثهما.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله تعالى" حمله الشافعي على الصلاة، واستشهد له بقوله تعالى: وذكر اسم ربه فصلى وفي بعض الروايات: "فإذا رأيتموه فصلوا" وفي بعضها: "فكبروا وادعوا الله، وصلوا وتصدقوا".

وقوله: "وتكعكعت" يقال: كععته فتكعكع، أي: حبسته فاحتبس، وتكعكع أيضا: جبن، وهو راجع إلى الأول، ويقال: إن أصل تكعكع تكعع فأدخلت الكاف بينهما، وفي بعض روايات الصحيح كففت بدل تكعكعت.

وقوله: إني رأيت أو أريت الجنة.

كأنه شك من الراوي.

وقوله: "فتناولت منها عنقودا" كأن المعنى: فأردت أن أتناول; لأن في بعض روايات الصحيح: "ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا [ ص: 41 ] إليه ثم بدا لي أن لا أفعل، فما من شيء توعدونه إلا وقد رأيته في صلاتي هذه" رواه جابر ، وأيضا ففي رواية عائشة: رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني أتقدم .

وقوله: "فلم أر كاليوم منظرا" يريد لم أر منظرا في البشاعة والفظاعة كما رأيت اليوم، ولفظ رواية البخاري في الصحيح: فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع.

وقوله: يكفرن العشير يعني: الزوج، سمي به لأنه يعاشرها وتعاشره، قال تعالى: ولبئس العشير والمعاشرة: المخالطة، ويقال: كفر كفورا وكفرانا أي: جحد النعمة.

وفي الحديث أنه يصلى للخسوف بالجماعة لقوله: فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه وأنه يسن في قيامها وركوعها التطويل، واحتج الشافعي بقوله نحوا من سورة البقرة على أنه لم يجهر بالقراءة; لأنه لو جهر وبلغهم الصوت لأشبه أن ينقل الراوي ما سمع ولا يقدر بالبقرة; وأما في خسوف القمر فيستحب الجهر.

وقوله في الركعة الأولى: "ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول" بين أنه ينبغي أن يكون القيام الأول أطول من الثاني، والركوع الأول أطول من الثاني، وقضية ما ذكره الأصحاب أنه يجعل القيام الأول في الركعة الثانية دون القيام الثاني في الأولى، والركوع الأول في الثانية دون الركوع الثاني في الأولى أن يحمل الأول في قوله: دون القيام الأول [ ص: 42 ] ودون الركوع الأول.

والركعة الثانية على الذي يليه هذا الذي فيه الكلام، وهذه الكيفية التي اشتمل عليها حديث ابن عباس أشهر والروايات بها أكثر، وفي صحيح مسلم من رواية طاوس، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكسوف فقرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم سجد وفي الأخرى مثلها وبعبارة أخرى: صلى ثمان ركعات في أربع سجدات .

وعن عبيد بن عمير، عن عائشة; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ست ركعات وأربع سجدات .

ويروى مثله من رواية جابر، وعن أبي بن كعب; أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين في كل ركعة خمس ركوعات . ويروى عن سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -; أنه صلى ركعتين في كل ركعة ركوع واحد كسائر الصلوات . وحمل بعضهم الروايات على أنه صلاها مرات وزاد ونقص بحسب مدة الخسوف، وإلى هذا ذهبت طائفة من أصحابنا.

وقوله: "ثم انصرف وقد تجلت الشمس" يبين وقوع الخطبة بعد زوال الخسوف; فإن خطبة الكسوف مؤخرة عن الصلاة كخطبة العيد، [ ص: 43 ] وفي صحيح البخاري من رواية أسماء; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انصرف وقد تجلت الشمس فخطب فحمد الله تعالى بما هو أهله .

ورأى الشافعي أن قوله في حديث ابن عباس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ... إلى آخره أجراه في الخطبة، ويوضحه ما في رواية عائشة; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وقد تجلت الشمس فخطب الناس فقال في كسوف الشمس والقمر: إنهما آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة .

وإنما قالوا: رأيناك تناولت في مقامك شيئا ... إلى آخره لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر في خطبته بعد حمد الله والثناء عليه: ما من شيء كتب لم أره إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار وكذلك رواية أسماء.

وفيه أنهم كلموه في الخطبة، وأن تطويل العبادة وإدامتها تفيده المعارف فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما أطال الصلاة اطلع على المغيبات، وفيه أن كفران النعمة من المنكرات الموجبة للعقوبات، وأن النساء أسرع إليه.

واعلم أن هذا الحديث مع أحاديث بعده تتعلق بصلاة الخسوف ولم يترجم لها أبو العباس بابا ولا لصلاة الاستسقاء بعدها واقتصر على سرد الأحاديث.




الخدمات العلمية