الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) ، أي : باليمين التي للقلب فيها كسب ، فكل يمين عقدها القلب فهي كسب له ، وكذلك فسر مجاهد الكسب بالعقد ، كآية المائدة : ( بما عقدتم الأيمان ) . وقال ابن عباس ، والنخعي : هو أن يحلف كاذبا أو على باطل ، وهي الغموس . وقال زيد بن أسلم : هو أن يعقد الإشراك بقلبه إذا قال : هو مشرك إن فعل كذا . وقال قتادة : بما تعمد القلب من المآثم . وهذا الذي ذكره تعالى من المؤاخذة ، هو العقوبة في الآخرة إن كانت اليمين غموسا ، أو غير غموس وترك تكفيرها ، والعقوبة في الدنيا بإلزام الكفارة إن كانت مما تكفر . واختلفوا في اليمين الغموس ، فقال مالك ، وجماعة : لا تكفر ، وهي أعظم ذنبا من ذلك . وقال عطاء ، وقتادة ، والربيع ، والشافعي : تكفر ، والكفارة مؤاخذة . والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب ، وهي المصبورة ، سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ، ومصبورة لأن صبرها مغالبة وقوة عليها ، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي . وقسمت الأيمان إلى : لغو ، ومنعقدة ، وغموس . والمنعقدة : هي على المستقبل التي يصح فيها الحنث والبر ، وبينا اللغو والغموس . وقسمت أيضا إلى : حلف على ما من محرم ، وهي : الكاذبة ؛ ومباح : وهي الصادقة ؛ وعلى مستقبل عقدها طاعة والمقام عليها طاعة ، وحلها معصية أو مكروه ، ومقابلها أو ما هو مباح عقدها والمقام عليها وحلها ، ولكن دخلت هنا بين نقيضين باعتبار وجود اليمين ؛ لأنها لا تخلو من أن لا يقصدها القلب ، ولكن جرت على اللسان ، وهي اللغو ، أو تقصدها ، وهي المنعقدة ، وهما ضدان باعتبار أن لا توجد اليمين ؛ إذ الإنسان قد يخلو من اليمين ، وهذان النوعان من النقيضين والضد أحسن ما يقع فيه " لكن " ، وأما الخلافان ففي جواز وقوعها بينهما خلاف ، وقد تقدم طرف من هذا ، وإبدال الهمزة واوا في مثل " يؤاخذ " مقيس ، ونحوه : يؤذن ويؤلف ، وفي قوله : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) محذوف ، تقديره : ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه ، و " ما " في قوله " بما " موصولة ، والعائد محذوف ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، ويحسنه مقابلته بالمصدر ، وهو قوله : ( باللغو ) ، وجوز أن تكون نكرة موصوفة .

( والله غفور حليم ) ، جاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة الله على عباده ؛ حيث لم يؤاخذهم باللغو في الأيمان ، وفي تعقيب الآية بهما إشعار بالغفران ، والحلم عن من أوعده تعالى بالمؤاخذة ، وإطماع في سعة رحمته ؛ لأن من وصف نفسه بكثرة الغفران والصفح مطموع في ما وصف به نفسه ، فهذا الوعيد الذي ذكره تعالى مقيد بالمشيئة ، كسائر وعيده تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية