الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ) . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقسم ، والسدي ، والربيع ، والضحاك ، وغيرهم : نزلت في عمرة القضاء عام الحديبية ، وكان المشركون قاتلوهم ذلك العام في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال ، وذلك في ذي القعدة : ( الشهر الحرام بالشهر الحرام ) ، أي : هتكه بهتكه ، تهتكون حرمته عليهم ، كما هتكوا حرمته عليكم . وقال الحسن : سأل الكفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم : هل تقاتل في الشهر الحرام ؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه ، فهموا بالهجوم عليه ، وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يقاتل ، فنزلت .

والشهر ، مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده ، ولا يصح من حيث اللفظ أن يكون خبرا ، فلا بد من حذف ، والتقدير : انتهاك حرمة الشهر الحرام ، كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام : والألف واللام في الشهر ، في اللفظ هي للعهد ، فالشهر الأول هو ذو القعدة من سنة سبع في عمرة القضاء ، والشهر الثاني هو من سنة ست عام الحديبية ، ( والحرمات قصاص ) ، والألف واللام للعهد في الحرمات ، أي : حرمة الشهر وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد ، والشهر ، والقتال حين دخلتم . وهذا التفسير على السبب المنقول عن ابن عباس ومن معه ، وأما على السبب المنقول عن الحسن ، فتكون الألف واللام للعموم في النفس والمال والعرض ، أي : وكل حرمة يجري فيها القصاص ، فيدخل في ذلك تلك الحرمات السابقة وغيرها ، وقيل : ( والحرمات قصاص ) جملة مقطوعة مما قبلها ليست في أمر الحج والعمرة ، بل هو ابتداء أمر كان في أول الإسلام ، أي : من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به ، ثم نسخ ذلك بالقتال . وقالت طائفة : ما كان من تعد في مال أو جرح لم ينسخ ، وله أن يتعدى عليه من ذلك بمثل ما تعدى عليه ، ويخفي ذلك إذا أمكنه دون الحاكم ولا يأثم بذلك ، وبه قال الشافعي ، وهي رواية في مذهب مالك . وقالت طائفة ، منهم مالك : القصاص وقف على الحكام فلا يستوفيه إلا هم . وقرأ الحسن : " والحرمات " بإسكان الراء على الأصل ، إذ هو جمع حرمة ، والضم في الجمع اتباع .

( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ، هذا مؤكد لما قبله من قوله : ( والحرمات قصاص ) ، وقد اختلف فيها : أهي منسوخة أم لا ؟ [ ص: 70 ] على ما تقدم من مذهب الشافعي ومذهب مالك . وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية وما بمعناها بمكة ، والإسلام لم يعز ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعز دينه ، أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم ، وأمروا بقتال الكفار . وقال مجاهد : بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء ، وهو من التدريج في الأمر بالقتال .

وقوله : ( فاعتدوا ) ليس أمرا على التحتم إذ يجوز العفو ، وسمي ذلك اعتداء على سبيل المقابلة ، والباء في " بمثل " متعلقة بقوله : " فاعتدوا عليه " ، والمعنى : بعقوبة مثل جناية اعتدائه ، وقيل : الباء زائدة ، أي : مثل اعتدائه ، وهو نعت لمصدر محذوف ، أي : اعتداء مماثلا لاعتدائه . ( واتقوا الله ) أمر بتقوى الله فيدخل فيه اتقاؤه بأن لا يتعدى الإنسان في القصاص إلى ما لا يحل له .

( واعلموا أن الله مع المتقين ) بالنصرة والتمكين والتأييد ، وجاء بلفظ " مع " الدالة على الصحبة والملازمة : حضا على الناس بالتقوى دائما ، إذ من كان الله معه فهو الغالب المنتصر ، ألا ترى إلى ما جاء في الحديث : " ارموا وأنا مع بني فلان " ، فأمسكوا ، فقال : " ارموا وأنا معكم كلكم " ، أو كلاما هذا معناه ، وكذلك قوله لحسان : " اهجهم وروح القدس معك " . ( وأنفقوا في سبيل الله ) ، هذا أمر بالإنفاق في طريق الإسلام ، فكل ما كان سبيلا لله وشرعا له كان مأمورا بالإنفاق فيه : وقيل : معناه الأمر بالإنفاق في أثمان آلة الحرب ، وقيل : على المقلين من المجاهدين ، قاله ابن عباس ، قال : نزلت في أناس من الأعراب سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : بماذا نتجهز ؟ فوالله ما لنا زاد ، وقيل : في الجهاد على نفسه وعلى غيره ، وقيل : المعنى ابذلوا أنفسكم في المجاهدة في سبيل الله .

وسمي بذل النفس في سبيل الله إنفاقا مجازا واتساعا ، كقول الشاعر :


وأنفقت عمري في البطالة والصبا فلم يبق لي عمر ولم يبق لي أجر



والأظهر القول الأول ، وهو الأمر بصرف المال في وجوه البر من حج ، أو عمرة ، أو جهاد بالنفس ، أو بتجهيز غيره ، أو صلة رحم ، أو صدقة ، أو على عيال ، أو في زكاة ، أو كفارة ، أو عمارة سبيل ، أو غير ذلك .

ولما اعتقبت هذه الآية لما قبلها مما يدل على القتال والأمر به ، تبادر إلى الذهن النفقة في الجهاد للمناسبة .

( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، قال عكرمة : نزلت في الأنصار ، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله ، وقال النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر الله لي ، فنزلت .

وفي حديث طويل تضمن أن رجلا من المسلمين حمل على صف الروم ، ودخل فيهم وخرج ، فقال الناس : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب الأنصاري : تأولتم الآية على غير تأويلها ، وما أنزلت هذه الآية إلا فينا معشر الأنصار ، لما أعز الله دينه قلنا : لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا ، فنزلت . وفي تفسير التهلكة أقوال .

أحدها : ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال ، قاله أبو أيوب .

الثاني : ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة ، قاله حذيفة ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وابن جبير .

الثالث : التقحم في العدو بلا نكاية ، قاله أبو القاسم البلخي .

الرابع : التصدق بالخبيث ، قاله عكرمة .

الخامس : الإسراف بإنفاق كل المال ، قال تعالى : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) ، ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) ، قاله أبو علي .

السادس : الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته ، قاله البراء ، وعبيدة السلماني .

السابع : القنوط من التوبة ، قاله قوم .

الثامن : السفر للجهاد بغير زاد ، قاله زيد بن أسلم ، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم إلى الانقطاع في الطريق ، أو إلى كونهم عالة على الناس .

التاسع : إحباط الثواب ، إما بالمن ، أو الرياء والسمعة ، كقوله : ( ولا تبطلوا أعمالكم ) .

وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية . والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يئول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى ، فإن الجهاد [ ص: 71 ] في سبيل الله مفض إلى الهلاك ، وهو القتل ، ولم ينه عنه ، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة ، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى ، وقد ود ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا ، فيقاتل فيقتل ، أو كما جاء في الحديث : ويقال : ألقى بيده في كذا ، وإلى كذا ، إذا استسلم : لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، وكذا على كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز .

وألقى يتعدى بنفسه ، كما قال تعالى : ( فألقى موسى عصاه ) ، وقال الشاعر :


حتى إذا ألقت يدا في كافر     وأجن عورات الثغور ظلامها



وجاء مستعملا بالباء كهذه الآية ، وكقول الشاعر :


وألقى بكفيه الفتي استكانة     من الجوع وهنا ما يمر وما يحلي



وإذا كان ألقى على هذين الاستعمالين ، فقال أبو عبيدة وقوم : الباء زائدة ، التقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة ، ويكون عبر باليد عن النفس ، كأنه قيل : ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة . وقد زيدت الباء في المفعول كقوله :


سود المحاجر لا يقرأن بالسور



أي : لا يقرأن السور ، إلا أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس ، وقيل : مفعول ألقى محذوف ، التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، وتتعلق الباء بتلقوا ، وتكون الباء للسبب ، كما تقول : لا تفسد حالك برأيك .

والذي نختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو " بأيديكم " لكنه ضمن " ألقى " معنى ما يتعدى بالباء ، فعداه بها ، كأنه قيل : ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة . كقوله : أفضيت بجنبي إلى الأرض أي : طرحت جنبي على الأرض ، ويكون إذ ذاك قد عبر عن الأنفس بالأيدي : لأن بها الحركة والبطش والامتناع ، فكأنه يقول : إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك ، ولا يهمل ما وضع له ، ويفضى به إلى الهلاك . وتقدمت معاني أفعل في أول البقرة ، وهي أربعة وعشرون معنى ، وعرضتها على لفظ " ألقى " فوجدت أقرب ما يقال فيه أن أفعل للجعل ، على ما استقرأه التصريفيون ، تنقسم إلى ثلاثة أقسام .

القسم الأول : أن تجعله كقولك أخرجته ، أي : جعلته يخرج ، فتكون الهمزة في هذا النوع للتعدية .

القسم الثاني : أن تجعله على صفة ، كقوله : أطردته ، فالهمزة فيه ليست للتعدية : لأن الفعل كان متعديا دونها ، وإنما المعنى : جعلته طريدا . والقسم الثالث : أن تجعله صاحب شيء بوجه ما ، فمن ذلك : أشفيت فلانا ، جعلت له دواء يستشفى به ، وأسقيته : جعلته ذا ماء يسقي به ما يحتاج إلى السقي . ومن هذا النوع أقبرته ، وأنعلته ، وأركبته ، وأخدمته ، وأعبدته : جعلت له قبرا ، ونعلا ، ومركوبا ، وخادما ، وعبدا .

فأما " ألقى " فإنها من القسم الثاني ، فمعنى : ألقيت الشيء : جعلته لقيا ، واللقي فعيل بمعنى مفعول ، كما أن الطريد فعيل بمعنى مفعول ، فكأنه قيل : لا تجعلوا أنفسكم لقيا إلى التهلكة فتهلك . وقد حام الزمخشري نحو هذا المعنى الذي أيدناه فلم ينهض بتخليصه ، فقال : الباء في " بأيديكم " مثلها في أعطى بيده للمنقاد ، والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم ، أي : لا تجعلوها آخذة بأيديكم ، مالكة لكم ، انتهى كلامه .

وفي كلامه أن الباء مزيدة ، وقد ذكرنا أن ذلك لا ينقاس . ( وأحسنوا ) هذا أمر بالإحسان ، والأولى حمله على طلب الإحسان من غير تقييد بمفعول معين . وقال عكرمة : المعنى : وأحسنوا الظن بالله ، وقال زيد بن أسلم : وأحسنوا بالإنفاق في سبيل الله ، وفي الصدقات . وقيل : وأحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ، قال ذلك بعض الصحابة . قيل وأحسنوا معناه : جاهدوا في سبيل الله ، والمجاهد محسن .

( إن الله يحب المحسنين ) هذا تحريض على الإحسان : لأن فيه إعلاما بأن الله يحب من الإحسان صفة له ، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائما : بحيث لا يخلو منه محبة الله دائما .

التالي السابق


الخدمات العلمية