الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإن أحصرتم ) ظاهره ثبوت هذا الحكم للأمة ، وأنه يتحلل بالإحصار .

[ ص: 73 ] وروي عن عائشة وابن عباس : أنه لا يتحلل من إحرامه إلا بأداء نسكه ، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره . وليس لمحرم أن يتحلل بالإحصار بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن كان إحرامه بعمرة لم يفت ، وإن كان بحج ففاته قضاه بالفوات بعد إحلاله منه ، وتقدم الكلام في الإحصار .

وثبت بنقل من نقل من أهل اللغة أن الإحصار والحصر سواء ، وأنهما يقالان في المنع بالعدو ، وبالمرض ، وبغير ذلك من الموانع ، فتحمل الآية على ذلك ، ويكون سبب النزول ورد على أحد مطلقات الإحصار . وليس في الآية تقييد ، وبهذا قال قتادة ، والحسن ، وعطاء ، والنخعي ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، وقال علقمة ، وعروة : الآية نزلت فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو ، وقال ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومالك ، والشافعي : لا يكون الإحصار إلا بالعدو فقط . قال ابن عباس : والآية نزلت فيمن أحصر بالعدو لا بالمرض . وقال مالك ، والشافعي : ولو أحصر بمرض فلا يحله إلا البيت ، ويقيم حتى يفيق ، ولو أقام سنين .

وظاهر قوله : ( فإن أحصرتم ) استواء المكي والآفاقي في ذلك ، وقال عروة ، والزهري ، وأبو حنيفة : ليس على أهل مكة إحصار .

وظاهر لفظ " أحصرتم " مطلق الإحصار ، وسواء علم بقاء العدو - استيطانه - لقوته وكثرته ، فيحل المحصر مكانه من ساعته على قول الجمهور ، أو رجي زواله ، وقيل : لا يباح له التحلل إلا بعد أن يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه لو زال العدو لم يدرك الحج ، فيحل حينئذ ، وبه قال ابن القاسم ، وابن الماجشون .

وقيل : من حصر عن الحج بعذر حتى يوم النحر ، فلا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة ، ومطلق الإحصار يشمل قبل عرفة وبعدها خلافا لأبي حنيفة ، فإن من أحصر بمكة ، أو بعد الوقوف فلا يكون محصرا ، وبناء الفعل للمفعول يدل على أن المحصر بمسلم أو كافر سواء .

( فما استيسر من الهدي ) ، هو شاة ، قاله علي ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير ، وقتادة ، وإبراهيم ، والضحاك ، ومغيرة . وقد سميت هديا في قوله : ( هديا بالغ الكعبة ) ، وقال الحسن ، وقتادة : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأدناه شاة . وبه قال مالك .

وأبو يوسف ، وزفر ، يكون من الثلاثة ، يكون المستيسر على حكم حال المهدي ، وعلى حكم الموجود .

وروى طاوس عن ابن عباس : أنه على قدر الميسرة ، وقال ابن عمر ، وعائشة ، والقاسم ، وعروة : هو جمل دون جمل ، وبقرة دون بقرة ، ولا يكون الهدي إلا من هذين ، ولا يكون الشاة من الهدي ، وبه قال أبو حنيفة . قال ابن شبرمة : من الإبل خاصة ، وقال الأوزاعي يهدى الذكور من الإبل والبقر . ولو عدم المحصر الهدي ، فهل له بدل ينتقل إليه ؟ قال أبو حنيفة : تكون في ذمته أبدا ، ولا يحل حتى يجد هديا فيذبح عنه ، وقال أحمد : له بدل ، والقولان عن الشافعي ، فعلى القول الأول : يقيم على إحرامه أو يتحلل ، قولان . وعلى الثاني : يقوم الهدي بالدراهم ، ويشترى بها الطعام ، والكل أنه لا بدل للهدي ، والظاهر أن العمرة كالحج في حكم الإحصار ، وبه قال أكثر الفقهاء . وقال ابن سيرين لا إحصار في العمرة : لأنها غير مؤقتة .

والظاهر أنه لا يشترط سن في الهدي ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يجزي إلا الثني فصاعدا ، وقال مالك : لا يجزي من الإبل إلا الثني فصاعدا ، ويجوز اشتراك سبعة في بقرة أو بدنة ، وهو قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي .

وقال مالك : يجوز ذلك في التطوع لا في الواجب ، والظاهر وجوب ( فما استيسر من الهدي ) ، وقال ابن القاسم : لا يهدي شيئا إلا إن كان معه هدي ، والجمهور على أنه يحل حيث أحصر وينجز هديه إن كان ثم هدي ، ويحلق رأسه .

وقال قتادة ، وإبراهيم : يبعث هديه إن أمكنه ، فإذا بلغ محله صار حلالا .

وقال أبو حنيفة : إن كان حاجا فبالحرم متى شاء ، وقال أبو يوسف ، ومحمد في أيام النحر : وإن كان معتمرا فبالحرم في كل وقت عندهم جميعا ، ونحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه حيث أحصر ، وكان طرف الحديبية الربى التي أسفل مكة ، وهو من الحرم ، وعن الزهري : أن رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 74 ] وسلم - نحر هديه في الحرم . وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة .

واختلفوا في الاشتراط في الحج إذا خاف أن يحصر بعدو أو مرض ، وصيغة الاشتراط أن يقول إذا أهل : لبيك اللهم لبيك ، ومحلي حيث حبستني . فذهب الثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وأصحابهم ، إلى أنه لا ينفعه الاشتراط . وقال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والشافعي : في القديم لا بأس أن يشترط ، وله شروط ، وفيه حديث خرج في الصحيح : ولا قضاء عليه عند الجميع إلا من كان لم يحج ، فعليه حجة الإسلام ، وشذ ابن الماجشون فقال : ليس عليه حجة الإسلام ، وقد قضاها حين أحصر .

و " ما " من قوله : ( فما استيسر ) موصولة ، وهي مبتدأ ، والخبر محذوف ، تقديره : فعليه ما استيسر ، قاله الأخفش ، أو في موضع نصب : فليهد ، قاله أحمد بن يحيى ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فالواجب له استيسر ، واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد ، أي : يسر ، بمعنى : استغنى وغني ، واستصعب وصعب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل .

و " من " هنا تبعيضية ، وهي في موضع الحال من الضمير المستكن في استيسر العائد على " ما " ، فيتعلق بمحذوف ، التقدير : كائنا من الهدي ، ومن أجاز أن يكون " من " لبيان الجنس ، أجاز ذلك هنا . والألف واللام في " الهدي " للعموم .

وقرأ مجاهد ، والزهري ، وابن هرمز ، وأبو حيوة : " الهدي " بكسر الدال وتشديد الياء في الموضعين ، يعني هنا في الجر والرفع ، وروى ذلك عصمة عن عاصم .

التالي السابق


الخدمات العلمية