الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ) ، سبب النزول حديث كعب بن عجرة المشهور ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - رآه والقمل يتناثر من رأسه ، وقيل : رآه وقد قرح رأسه ، ولما تقدم النهي عن الحلق إلى الغاية ، التي هي بلوغ الهدي كان ذلك النهي شاملا ، فخص بمن ليس مريضا ولا به أذى من رأسه ، أما هذان فأبيح لهما الحلق ، وثم محذوف يصح به الكلام ، التقدير : فمن كان منكم مريضا ، ففعل ما ينافي المحرم من حلق أو غيره ، أو به أذى من رأسه فحلق ، وظاهر النهي العموم . وقال بعض أهل العلم : هو مختص بالمحصر : لأن جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله لا يجوز ، فربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر ، فأذن له في زوال ذلك بشرط الفدية ، وأكثر العلماء على أنه على العموم ، ويدل عليه قصة ابن عجرة .

و " منكم " متعلق بمحذوف ، وهو في موضع الحال : لأنه قبل تقدمه كان صفة " لمريضا " فلما تقدم انتصب على الحال . و " من " هنا للتبعيض . وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقا بـ " مريضا " وهو لا يكاد يعقل ، و " أو به أذى من رأسه " ، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات ، فيكون معطوفا على قوله " مريضا " ويرتفع " أذى " على الفاعلية بالمجرور الذي هو به ، التقدير : أو كائنا به أذى من رأسه ، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد ، فتكون تلك الجملة معطوفة على قوله " مريضا " ، وهي في موضع مفرد : لأن المعطوف على المفرد مفرد في التقدير ، إذا كان جملة ، ويرتفع " أذى " إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر ، فهو في موضع رفع ، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب ، وأجازوا أن يكون معطوفا على إضمار كان ، لدلالة كان الأولى عليها . التقدير : أو كان به أذى من رأسه ، فاسم كان على هذا إما ضمير يعود على " من " : وبه أذى ، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان ، وإما أذى وبه ، في موضع خبر كان ، وأجاز أبو البقاء أن يكون " أو به أذى من رأسه " معطوفا على كان ، و " أذى " رفع بالابتداء ، و " به " الخبر متعلق بالاستقرار ، والهاء في " به " عائدة على " من " وكان قد قدم أبو البقاء أن " من " شرطية ، وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ : لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية : لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية ، والمعطوف على الشرط شرط ، فيجب فيه ما يجب في الشرط ، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون " من " موصولة : لأنها إذ ذاك مضمنة معنى اسم الشرط ، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية ، والباء في " به " للإلصاق ، ويجوز أن تكون ظرفية ، و " من رأسه " يجوز أن يكون متعلقا بما يتعلق به " به " وأن يكون في موضع الصفة لـ " أذى " ، وعلى التقديرين يكون " من " لابتداء الغاية .

( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) ارتفاع [ ص: 76 ] " فدية " على الابتداء ، التقدير : فعليه فدية ، أو على الخبر ، أي : فالواجب فدية . وذكر بعض المفسرين أنه قرئ بالنصب على إضمار فعل ، التقدير : فليفد فدية . و " من صيام " في موضع الصفة ، و " أو " هنا للتخيير ، فالفادي مخير في أي الثلاثة شاء .

وقرأ الحسن ، والزهري : " أو نسك " بإسكان السين : والظاهر إطلاق الصيام والصدقة والنسك ، لكن بين تقييد ذلك السنة الثابتة في حديث ابن عجرة ، من أن الصيام صيام ثلاثة أيام ، والصدقة إطعام ستة مساكين ، والنسك شاة . وإلى أن الصيام ثلاثة أيام ذهب عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والربيع ، وغيرهم . وبه قال مالك ، والجمهور : وروي عن الحسن ، وعكرمة ، ونافع : عشرة أيام . ومحله زمانا متى اختار ، ومكانا حيث اختار . وأما الإطعام ، فذكر بعضهم انعقاد الإجماع على ستة مساكين ، وليس كما ذكر ، بل قال الحسن ، وعكرمة : يطعم عشرة مساكين ، واختلف في قدر الطعام ، ومحل الإطعام ، أما القدر فاضطربت الرواية في حديث عجرة ، واختلف الفقهاء فيه ، فقال أبو حنيفة : لكل مسكين من التمر صاع ، ومن الحنطة نصف صاع . وقال مالك ، والشافعي : الطعام في ذلك مدان مدان ، بالمد النبوي ، وهو قول أبي ثور ، وداود . وروي عن الثوري : نصف صاع من البر ، وصاع من التمر ، والشعير ، والزبيب . وقال أحمد مرة بقول كقول مالك ، ومرة قال : مدين من بر لكل مسكين ، ونصف صاع من تمر : وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم . وقال مالك ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي : لا يجزيه ذلك حتى يعطي لكل مسكين مدين مدين ، بمد النبي - صلى الله عليه وسلم .

وأما المحل فقال علي ، وإبراهيم ، وعطاء في بعض ما روي عنه ، ومالك وأصحابه إلا ابن الجهم ، وأصحاب الرأي : حيث شاء ، وقال الحسن ، وطاوس ، ومجاهد ، وعطاء أيضا ، والشافعي : الإطعام بمكة ، وأما النسك فشاة . قالوا بالإجماع ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل ، وأما محلها فحيث شاء ، قاله علي ، وإبراهيم ، ومالك ، وأصحابه إلا ابن الجهم ، فقال : النسك لا يكون إلا بمكة ، وبه قال عطاء في بعض ما روي عنه ، والحسن ، وطاوس ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، والشافعي .

وظاهر الفدية أنها لا تكون إلا بعد الحلق ، إذ التقدير : فحلق ففدية ، وقال الأوزاعي : يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق ، فيكون المعنى : ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك إن أراد الحلق . وظاهر الشرط أن الفدية لا تتعلق إلا بمن به مرض أو أذى فحلق ، فلو حلق ، أو جز ، أو أزال بنورة شعره من غير ضرورة ، أو لبس المخيط ، أو تطيب من غير عذر عالما ، فقال أبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهما ، وأبو ثور : لا يخير في غير الضرورة ، وعليه دم لا غير ، وقال مالك : يخير ، والعمد والخطأ بضرورة وغيرها سواء عنده ، فلو فعله ناسيا ، فقال إسحاق ، وداود : لا شيء عليه . وقال أبو حنيفة ، والثوري ، ومالك ، والليث : الناسي كالعامد في وجوب ذلك القدر ، وعن الشافعي القولان ، وأكثر العلماء يوجبون الفدية بلبس المخيط وتغطية الرأس ، أو بعضه ولبس الخفين ، وتقليم الأظفار ، ومس الطيب ، وإماطة الأذى ، وحلق شعر الجسد ، أو مواضع الحجامة ، الرجل والمرأة في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك . وقال داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد .

التالي السابق


الخدمات العلمية