الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولما ذكر تعالى كتابة القصاص في القتل بين من يقع بينهم القصاص فقال : ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) ، واختلفوا في دلالة هذه الجمل ، فقيل : يدل على مراعاة المماثلة في الحرية والعبودية والأنوثة ، فلا يكون مشروعا إلا بين الحرين ، وبين العبدين ، وبين الأنثيين ، فالألف واللام تدل على الحصر ، كأنه قيل : لا يؤخذ الحر إلا بالحر ، ولا يؤخذ العبد إلا بالعبد ، ولا تؤخذ الأنثى إلا بالأنثى . روي معنى هذا عن ابن عباس ، وأن ذلك نسخ بآية المائدة ، وروي عنه أيضا أن الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة . وممن ذهب إلى أنها منسوخة : ابن المسيب ، والنخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والثوري . وقيل : لا تدل على الحصر ، بل تدل على مشروعية القصاص بين المذكورين ، ألا ترى أن عموم : ( والأنثى بالأنثى ) تقتضي قصاص الحرة بالرقيقة ؟ فلو كان قوله : ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) مانعا من ذلك لتصادم العمومان . وقوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) ، جملة مستقلة بنفسها ، وقوله : ( الحر بالحر ) ذكر لبعض جزئياتها فلا يمنع ثبوت الحكم في سائر الجزئيات .

وقال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد به الجنس ، الذكر والأنثى سواء فيه ، وأعيد ذكر الأنثى توكيدا وتهمما بإذهاب أمر الجاهلية . وروي عن علي والحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا ، وذكر أنثى ، أو أنثى ذكرا ، وقالا : إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا بها صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة . وإذا قتلت المرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها ، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد ، وإن شاء استحيى وأخذ قيمة العبد . وقد أنكر هذا عن علي والحسن ، والإجماع على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء ، وفرقة ترى الإتباع بفضل الديات ، والإجماع على قتل المسلم الحر إذا قتل مسلما حرا بمحدد ، وظاهر عموم الحر بالحر أن الوالد يقتل إذا قتل ابنه ، وهو قول عثمان البتي ، [ ص: 11 ] قال : إذا قتل ابنه عمدا قتل به . وقال مالك : إذا قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه ، وغير ذلك من أنواع القتل التي لا شبهة له فيها في ادعاء الخطأ قتل به ، وإن قتله برمي بشيء أو بضرب ، ففي مذهب مالك قولان : أحدهما : يقتل ، والآخر : لا يقتل . وقال عامة العلماء : لا يقتل الوالد بولده ، وعليه الدية فيما له ، قال بذلك : أبو حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي ، وسووا بين الأب والجد ، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد . وقال الحسن بن صالح : يقاد الجد بابن الابن ، وكان يجيز شهادة الجد لابن ابنه ، ولا يجيز شهادة الأب لابنه ، وظاهر قوله : ( الحر بالحر ) قتل الابن بأبيه ، والظاهر أيضا قتل الجماعة بالواحد ، وصح ذلك عن عمر وعلي ، وهو قول أكثر أهل العلم . وقال أحمد : لا تقتل الجماعة بالواحد ، والظاهر أيضا قتل من يجب عليه القتل لو انفرد ، إذا شارك من لا يجب عليه القتل كالمخطئ والصبي والمجنون والأب عند من يقول لا يقتل بابنه . وقال أبو حنيفة : لا قصاص على واحد منهما ، وعلى الأب القاتل نصف الدية في ماله ، والصبي والمخطئ والمجنون على عاقلته ، وهو قول الحسن بن صالح . وقال الأوزاعي : على عاقلة المشتركين ممن ذكر الدية . وقال الشافعي : على الصبي القاتل المشارك نصف الدية في ماله ، وكذلك دية الحر والعبد إذا قتلا عبدا ، والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانيا ، وإن شاركه قاتل خطأ فعلى العامد نصف الدية ، وجناية المخطئ على عاقلته .

وقال ابن المسيب ، وقتادة ، والنخعي ، والشعبي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : يقتل الحر بالعبد . وقال مالك ، والليث ، والشافعي : لا يقتل به ، واتفقوا على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربي . وقال أبو حنيفة : يقتل المسلم بالذمي ، وقال ابن شبرمة ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي : لا يقتل به . قال مالك والليث : إن قتله غيلة قتل به وإلا لم يقتل به ، وكلهم اتفقوا على قتل العبد بالحر .

والظاهر من الآية الكريمة مشروعية القصاص في القتلى بأي شيء وقع القتل ، من مثقل حجر ، أو خشبة ، أو عصا ، أو شبه ذلك مما يقتل غالبا ، وهو مذهبمالك ، والشافعي ، والجمهور . وقال أبو حنيفة : لا يقتل إذا قتل بمثقل . والظاهر من الأئمة عدم تعيين الآلة التي يقتل بها من يستحق القتل ، وقال : أبو حنيفة ، ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر : لا يقتل إلا بالسيف . وقال ابن الغنيم ، عن مالك : إن قتل بحجر ، أو عصا ، أو نار أو تغريق قتل به ، فإن لم يمت بمثله فلا يزال يكرر عليه من جنس ما قتل به حتى يموت ، وإن زاد على فعل القاتل .

وروى ابن منصور ، عن أحمد : أنه يقتل بمثل الذي قتل به .

ونقل عن الشافعي : أنه إذا قتل بخشب ، أو بخنق قتل بالسيف ، وروي عنه أيضا : أنه إن ضربه بحجر حتى مات فعل به مثل ذلك ، وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات فإن لم يمت في مثل تلك المدة . وقال ابن شبرمة : يضرب مثل ضربه ولا يضرب أكثر من ذلك ، وقد كانوا يكرهون المثلة ويقولون : يجزئ عن ذلك كله السيف . قال : فإن غمسه في الماء حتى مات ، فلا يزال يغمس في الماء حتى يموت . والظاهر من الآية مشروعية القصاص في الأنفس فقط لقوله : ( في القتلى ) ، وبه قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر . وهو : أنه لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس . وقال ابن المسيب ، والنخعي ، وقتادة ، والحكم وابن أبي ليلى : القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، وقال الليث : يقتص للحر من العبد ، ولا يقتص من الحر للعبد في الجنايات . وقال الشافعي : من جرى عليه القصاص في النفس جرى عليه في الجراح ، ولا يقتص للحر من العبد فيما دون النفس .

( والأنثى بالأنثى ) . واتفقوا على ترك ظاهرها ، وأجمعوا كما تقدم ذكره ، على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل - إلا خلافا شاذا عن الحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة ، وعمر بن عبد العزيز ، أنه لا يقتل الرجل بالمرأة . وروي أن عمر قتل نفرا من صنعاء بامرأة - والمرأة بالرجل وبالعبد ، والعبد بالحر ، وقد وهم الزمخشري في نسبته أن مذهب مالك والشافعي [ ص: 12 ] أن الذكر لا يقتل بالأنثى ، ولا خلاف عنهما في أنه يقتل بها . وقال عثمان البتي : إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به ، وأخذ من مالها نصف الدية ، وإن قتلها هو فعليه القود ولا يرد عليه شيء . واختلفوا في القصاص في الجراحات بين الرجال والنساء ، فذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وابن شبرمة ، إلى أنه لا قصاص بين الرجال والنساء إلا في الأنفس ، وذهب مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والليث ، والشافعي ، وابن شبرمة في رواية إلى : أن القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في النفس وما دونها ، إلا أن الليث قال : إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولا يقتص منه . وأعرب هذه الجمل مبتدأ وخبرا ، وهي ذوات ابتدئ بها ، والجار والمجرور أخبار عنها ، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية ، فليس ذلك على حد قولهم : زيد بالبصرة ، وإنما هي للسبب ، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق ، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه ، إذ الكون الخاص لا يجوز حذفه إلا في مثل هذا ، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدم القصاص في القتلى ، فالتقدير : الحر مقتول بالحر ، أي : بقتله الحر ، فالباء للسبب على هذا التقدير ، ولا يصح تقدير العامل كونا مطلقا ، ولو قلت : الحر كائن بالحر ، لم يكن كلاما إلا إن كان المبتدأ مضافا قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فيجوز ، والتقدير : قتل الحر كائن بالحر ، أي : بقتله الحر ، ويجوز أن يكون " الحر " مرفوعا على إضمار فعل يفسره ما قبله ، والتقدير : يقتل الحر بقتله الحر ، إذ في قوله : ( القصاص في القتلى ) دلالة على هذا الفعل .

التالي السابق


الخدمات العلمية