الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) ، الكاف للتشبيه وهي في موضع نعت لمصدر محذوف ، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه ، أي : تبيينا مثل ذلك يبين ، أو في حال كونه منها ذلك التبيين يبينه ، أي : يبين التبيين مماثلا لذلك التبيين ، واسم الإشارة الأقرب أن يعود إلى الأقرب من تبينه حال المنفق ، قاله ابن الأنباري . وقال الزمخشري : ما يؤول إليه وهو تبيين أن العفو أصلح من الجهد في النفقة أو حكم الخمر والميسر ، والإنفاق القريب . أي : مثل ما يبين في هذا يبين في المستقبل ، والمعنى : أنه يوضح الآيات مثل ما أوضح هذا ، ويجوز أن يشار به إلى بيان ما سألوا عنه ، فبين لهم كتبيين مصرف ما ينفقون ، وتبيين ما ترتب عليه من الجزاء الدال عليه علم الله في قوله : ( فإن الله به عليم ) ، وتبيين حكم القتال ، وتبيين حاله في الشهر الحرام ، وما تضمنته الآية التي ذكر فيها القتال في الشهر الحرام ، وتبيين حال الخمر والميسر ، وتبيين مقدار ما ينفقون . وأبعد من خص اسم الإشارة ببيان حكم الخمر والميسر فقط ، وأبعد من ذلك من جعله إشارة إلى بيان ما سبق في السورة من الأحكام . وكاف الخطاب إما أن تكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو للسامع أو للقبيل ؛ فلذلك أفرد ، أو لجماعة المؤمنين فيكون بمعنى " كذلكم " وهي لغة العرب يخاطبون الجمع بخطاب الواحد ، وذلك في اسم الإشارة ، ويؤيد هذا هنا قوله : ( يبين لكم ) ، فأتى بضمير الجمع فدل على أن الخطاب للجمع . ( لكم ) متعلق بـ " يبين " ، واللام فيها للتبليغ ، كقولك : قلت لك ، ويبعد فيها التعليل ، والآيات : العلامات والدلائل ، لعلكم تتفكرون : ترجئة للتفكر تحصل عند تبيين الآيات ؛ لأنه متى كانت الآية مبينة وواضحة لا لبس فيها ؛ ترتب عليها التفكر والتدبر فيما جاءت له تلك الآية الواضحة من أمر الدنيا وأمر الآخرة . و ( في الدنيا والآخرة ) ، الأحسن أن يكون ظرفا للتفكر ومتعلقا به ، ويكون توضيح الآيات لرجاء التفكر في أمر الدنيا والآخرة مطلقا ، لا بالنسبة إلى شيء مخصوص من أحوالها ، بل ليحصل التفكر فيما يعن من أمرهما ، وهذا ذكر معناه أولا الزمخشري فقال " تتفكرون " فيما يتعلق [ ص: 160 ] بالدارين ، فتأخذون بما هو أصلح لكم ، وقيل : تتفكرون في أوامر الله ونواهيه ، وتستدركون طاعته في الدنيا ، وثوابه في الآخرة ، وقال المفضل بن سلمة : تتفكرون في أمر النفقة في الدنيا والآخرة ، فتمسكون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا ، وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى ، وقيل : تتفكرون في زوال الدنيا وبقاء الآخرة ؛ فتعملون للباقي منهما . قال معناه ابن عباس والزمخشري ، وقيل : تتفكرون في منافع الخمر في الدنيا ، ومضارها في الآخرة ؛ فلا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب المستمر ، وقال قريبا منه الزمخشري ، وقيل : تتفكرون في الدنيا فتمسكون ، وفي الآخرة فتتصدقون . وجوزوا أن يكون " في الدنيا " متعلقا بقوله " يبين لكم " الآيات ، لا بـ " تتفكرون " ، ويتعلق بلفظ " يبين " أي : يبين الله في الدنيا والآخرة . وروي هذا عن الحسن . ولا بد من تأويل على هذا إن كان التبيين للآيات يقع في الدنيا ؛ فيكون التقدير في أمر الدنيا والآخرة ، وإن كان يقع فيهما فلا يحتاج إلى تأويل ؛ لأن الآيات - وهي العلامات - يظهرها الله تعالى في الدنيا والآخرة . وجعل بعضهم هذا القول من باب التقديم والتأخير ؛ إذ تقديره عنده : " كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون " ، قال : ويمكن الحمل على ظاهر الكلام ؛ لتعلق " في الدنيا والآخرة " بـ " تتفكرون " ، ففرض التقديم والتأخير ، على ما قاله الحسن ، يكون عدولا عن الظاهر لا الدليل ، وإنه لا يجوز ، وليس هذا من باب التقديم والتأخير ؛ لأن " لعل " هنا جارية مجرى التعليل ، فهي كالمتعلقة بـ " يبين " ، وإذا كانت كذلك فهي والظرف من مطلوب " يبين " ، وتقدم أحد المطلوبين وتأخر الآخر ، لا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير . ويحتمل أن تكون " لعلكم تتفكرون " جملة اعتراضية ؛ فلا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير ؛ لأن شرط جملة الاعتراض أن تكون فاصلة بين متقاضيين . قال ابن عطية ، وقال مكي : معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة ، يدل عليهما وعلى منزلتهما ، لعلكم تتفكرون في تلك الآيات . قال ابن عطية : فقوله " في الدنيا " متعلق على هذا التأويل بالآيات ، انتهى كلامه . وشرح مكي الآية بأن جعل الآيات منكرة ، حتى يجعل الظرفين صفة للآيات ، والمعنى عنده : آيات كائنة في الدنيا والآخرة ، وهو شرح معنى لا شرح إعراب ، وما ذكره ابن عطية من أنه متعلق على هذا التأويل بالآيات ، إن عنى ظاهر ما يريده النحاة بالتعلق فهو فاسد ؛ لأن الآيات لا يتعلق بها جار ومجرور ، ولا تعمل في شيء البتة ، وإن عنى أنه يكون الظرف من تمام الآيات ، وذلك لا يتأتى إلا باعتقاد أن تكون في موضع الحال ، أي : كائنة في الدنيا والآخرة ؛ ولذلك فسره مكي بما يقتضي أن تكون صفة ، إذ قدر الآيات منكرة ، والحال والصفة سواء في أن العامل فيهما محذوف إذا كانا ظرفين أو مجرورين ، فعلى هذا تكون " في الدنيا " متعلقا بمحذوف لا بالآيات ، وعلى رأي الكوفيين تكون الآيات موصولا وصل بالظرف ؛ ولتقرير مذهبهم ورده موضع غير هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية